يحاول الاحتلال الإسرائيلي من خلال تصريحات قادته ومحلليه العسكريين بشكل خاص أن يصور ما حدث في مخيم عقبة جبر في أريحا من استشهاد خمسة مناضلين فلسطينيين وجرح آخرين بجراح خطيرة، على أنه انجاز عظيم لأجهزته الأمنية، وذلك ليتجنب فيما يبدو سياق هزيمته في قمع مقاومة ونضال الشعب الفلسطيني المستمرة والمتصاعدة، وكي يضرب معنويات الفلسطينيين ويحاول رفع تلك المهزوزة للإسرائيليين وتحديداً بعد عملية خيري علقم ،والمنطقة على أبواب سياسات إسرائيلية متصاعدة في قمعها وإجرامها تنفيذًا لمخططات وبرامج حكومة الفاشيين الجدد في "إسرائيل" بزعامة نتنياهو وسموتريتش وبني غفير، فكيف ذلك؟ ولماذا؟
لقد اعتبر الإسرائيليون أريحا بأنها منطقة هادئة ووادعة ، واستبعدوا بان تنطلق منها مقاومة وتحديدًا مقاومة مسلحة كتلك التي حاول بناؤها شهداء عقبة جبر رحمهم الله ،وهذا ما يمكن فهمه مما نشرته صحيفة هآرتس وعلى لسان محللها الاستراتيجي عاموس هارئيل الذي قال "مدينة أريحا ومخيم اللاجئين القريب منها عقبة جبر، ليسا بالضبط رموز للنضال المسلح الفلسطيني، ففي كلتا الانتفاضتين وفي فترات توتر أخرى تفرغت أريحا بطريقة منعزلة أو مما يحصل في ساحل مناطق الضفة الغربية"، وكشاهد آخر على اعتبار أريحا مختلفة أشار عاموس هارئيل إلى أن (إسرائيل) نقلت السلطة الفلسطينية السيطرة على أريحا أولًا في بداية اتفاقات أوسلو إلى جانب قطاع غزة لأنها تفترض سهولة حصار وإغلاق المدينة ومنطقتها وبالتالي منع انطلاق عمليات فدائية منها.
وهكذا من الواضح بأن خلية أريحا التي يزعم الاحتلال منتشياً وبشكل مبكر بأنه قد نجح بالقضاء عليها قد ضربت فرضية أريحا الهادئة وعقبة جبر الوديعة ونجحت في مفاجأة الاحتلال حيث أتته أريحا من حيث لم يحتسب، وهو ما أكده المحلل العسكري ليديعوت أحرونوت يوسي يهوشع "خلية حماس في اريحا الهادئة فاجأت جهاز الشاباك والجيش".
ولا يمكن أن نستبعد أن تضرب أريحا أيضًا وفي الفترة القريبة القادمة فرضية الاحتلال بأنه قد قضى على خلايا المقاومة فيها، ومنع انتقال " فكرة جنين وعرين الأسود في نابلس" إلى منطقة أريحا، فالشعب الفلسطيني ينجح في الأشهر الأخيرة في مفاجأة الاحتلال في كثير من التحركات ومن أهمها عملية خيري علقم في القدس، وثبات كتيبة جنين وعرين الأسود في نابلس، رغم الضربات المتوالية والقاسية.
من غير المفاجئ أن تحاول المنظومة الإسرائيلية تضخيم "إنجازها" بتصفية شهداء عقبة جبر واعطائه أبعاد متعددة خاصة في ظل الزلزال الكبير الذي ضرب تركيا وسوريا وانشغال العالم به، وأيضًا بعد الضربة الأمنية والمعنوية الكبيرة التي تلقتها "إسرائيل" من مقاومة الفلسطينيين وتحديداً خير علقم ومحمد عليوات، ولإرضاء غرور وعنجهية وزراء اليمين الأكثر تطرفًا بن غفير وسموتريتش، وحتى يستطيع ضباط الجيش المجرم أن يرفعوا رؤوسهم أمام قيادتهم السياسية الأشد إجرامًا وفاشية، وتحديدًا بعدما نشره يانيف كوبوفيتش المحلل العسكري في هآرتس بتاريخ 1-2، بأن "ضباط كبار يخشون إبداء مواقفهم المخالفة لمواقف الوزراء بن غفير وسموتريتش؛ خوفًا من ن يتعرضوا لتصريحات علنية مضادة لهم في وسائل الاعلام" ،ومرة أخرى يبدو الدم الفلسطيني كأحد الأثمان في العملية السياسية الداخلية في دولة الاحتلال.
لقد أعطى المحلل العسكري في يديعوت أحرونوت يوسي يهوشع، بتاريخ 7-2 بعدًا داخليًا آخر لإنجاز الجيش(العظيم) في أريحا، وهو بأن تصفية الخلية جاءت على يد كتيبة أسود أو لبؤات الاغوار، وهي وحدة خاصة مختلطة تخدم فيها نسبة عالية من المجندات الاسرائيليات الأمر الذي يثبت وفق يوسي يهوشع قدرات النساء والمجندات اليهوديات العالية في القتال والمواجهة، وليس كما يزعم "المتدينون المتطرفون في "إسرائيل"" والذين يطالبون دوماً بحصار النساء ومنعهن من الخدمة في الجيش.
بعيدًا عن الأهداف السياسية والأمنية والعنصرية الضيقة في نظرة منظومة الاحتلال في عملية تصفية خلية شهداء عقبة جبر، فإن من المعقول بل من الضروري النظر لحادث أريحا بصورة أوسع وأشمل، أي النظر اليه كحلقة من حلقات النضال الوطني الفلسطيني المتصاعد والمتزايد في السنة الأخيرة ضد الاحتلال، وعليه فهو يحمل أيضا دلالات إضافية من أهمها:
أولًا: فشل الاحتلال ورغم تعزيزه المستمر والمتصاعد لقواته الأمنية والعسكرية في الضفة الغربية من مواجهة ظواهر المقاومة المتعددة في الضفة الغربية والقدس، والشعب الفلسطيني يصّر أن يقاوم الاحتلال مهما كلفه ذلك من ثمن، وما الشهداء في الثورات إلا وقودًا إضافيًا للمعركة حتى تحقيق الأهداف المشروعة للشعب الفلسطيني في الحرية والخلاص من الاستعمار الاستيطاني الإحلالي الإسرائيلي الغاشم.
ثانيًا: من المرجح ألّا تكون خلية أريحا هي الأخيرة من نوعها للاحتلال الإسرائيلي، المدن الفلسطينية التي حرص الاحتلال على أن يعزز فصل وعزل إحداها عن الأخرى، تقدم النماذج تلو النماذج في المقاومة ضد الاحتلال، ففي أريحا كانت محاولة لإنشاء كتيبة ومنظمة واضحة الانتماء لحماس إلى جانب كتيبة جنين، وهي كتيبة الوحدة الوطنية التي يبرز فيها أيضًا دور التنظيمات التقليدية الى جانب ظاهرة عرين الأسود في نابلس والتي تتميز بالعمل والمقاومة المسلحة الملتزمة دينيًا ووطنيًا ودون أن تكون تابعة لأي من التنظيمات التقليدية كحماس والجهاد والتي تحرص في المقابل على دعمها بشتى أنواع الدعم المادي والمعنوي.
ثالثا: أما الدلالة الثالثة فهي أن أحداث مخيم عقبة جبر تعزز الفرضية التي كررها كاتب هذه السطور عدة مرات، وهي بأن المقاوم الفرد الذي مثله عدي التميمي وخيري علقم وغيرهما من رموز المقاومة الفردية، هذا النموذج البطولي لا يشكّل بحال من الأحوال بديلًا أو نقيضًا أو نسفًا للمقاومة المنظمة التي تحاول دومًا ودونما انقطاع العودة للساحة التي تحاصرها أجهزة أمن محلية ودولية وإقليمية هائلة القدرات من كل جانب، وأكثر من ذلك فان حرص الاحتلال على سرعة قمع وإحباط وقتل أي محاولة لعودة العمليات التي تقودها تنظيمات عريقة كحماس وغيرها هذا الحرص الواضح هو دليل آخر لأهمية وحيوية المقاومة المنظمة ضد الاحتلال.
هكذا إذن يبدو استشهاد أبطال مخيم عقبة جبر في أريحا رغم كل الألم وقسوة التضحيات والتي يعتبرها الاحتلال بعنصريته وعنجهيته إنجازاً يفتخر به أمام فئات واسعة ومؤثرة من المجتمع والمؤسسة الإسرائيلية، فرصةً أخرى للشعب الفلسطيني المناضل لتوسيع مقاومته وتعزيز مواجهته للاحتلال الغاشم ،وليعبر أولاً عن إنسانيته الفطرية في رفض كل أشكال القهر والعدوان الإسرائيلي المشبع في هذه الأيام بأساطير الدين والتوراة التي يحملها جيش بن غفير المهزوم ،وليسقط ثانياً نظريات الاحتلال الأمنية حول أريحا الهادئة وغيرها من فئات ومن مدن وقرى الشعب الفلسطيني المقاوم .