بعد يومين على اشتباكٍ فشل فيه جنود الاحتلال في تحقيق مبتغاهم، ظلَّ مخيم "عقبة جبر" في أريحا يعيش حالة "هدوء تسبق العاصفة"، حينما استيقظ والدا الشابين رأفت وإبراهيم وائل عويضات كما بقية الأهالي على وقع اقتحام ومحاصرة كرفان خشبي كان يتحصن فيه خمسة شبان منهم الشقيقان، يخوضون جميعهم معركة الدفاع عن المخيم.
على مقربة من المكان، وضع وائل عويضات قلبه عند نجليه، وتجمع مع أبناء المخيم لمتابعة الأخبار الواردة من ساحة الاشتباك بشأن محاصرة قوات الاحتلال لمكان تحصن الشبان، تجتاحه رجفة قلق تحولت إلى سؤال وجهه إلى كل وافد من هناك، أو صوت متصل قادم لطمأنته: "صار إشي بأولادي؟"، يطلب منه الجميع التضرع إلى الله: "قول يا رب".
كانت أصوات الناس المتجمهرة تحجب الصوت عن والد رأفت (21 عامًا) وإبراهيم (27 عامًا) على الرغم من محاولته الإنصات لصوت رجل قادم من سماعة الهاتف، يقطع القلق أوصال حروفه المرتجفة ينقل له جزءًا من الخبر: "أولادك أصيبوا– قُل استشهدوا، ربنا يصبرك".
دفاع الأشقاء
لم يكن رأفت وإبراهيم أول شقيقين يقتلهما جنود الاحتلال، ولم يكونا أول مدافعيْن عن فلسطين، فسبقهما ظافر ريماوي (21 عامًا) وشقيقه جواد (22 عامًا) في اقتحام قرية "كفر عين" شمال غرب رام الله في نوفمبر/ تشرين ثاني الماضي، والشقيقان محمد مطير (37 عامًا) ومهند (19 عامًا) دهسهما مستوطن في نابلس في ديسمبر/ كانون الأول الماضي.
جرح الفراق يلسع قلب والد الشهيدين في مستهل حديثه لصحيفة "فلسطين": "لم أرهما قبل الاستشهاد بعشرة أيام، لكن لم أكن أعرف أنهما مع بعضهما، فتفاجأت باستشهادهما معًا"، مؤكدًا أن "هذا طريق رسماه معًا، والمولى أعطاهما ما تمنيا".
في مخيم يقع شرق الضفة الغربية، ولا يتجاوز عدد سكانه 10 آلاف نسمة، أشعل الشقيقان برفقة الشهداء الثلاثة الآخرين، مالك عوني لافي (22 عامًا)، وأدهم مجدي عويضات (22 عامًا)، وثائر خالد عويضات (28 عامًا) نقطة مواجهةٍ جديدة، ودافعوا عن المخيم حتى آخر قطرة دم نزفت من أجسادهم التي ما زال الاحتلال يحتجزها.
لدى إبراهيم ورأفت أربعة أشقاء (2 من الذكور وفتاتان) ويعمل والدهما في التجارة والمواشي، تلقيا تعليمها الأساسي والثانوي بمدارس وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا".
درس رأفت هندسة برمجة سيارات، وهو تخصص بعيد عن تخصص "العلاج الطبيعي" الذي درسه شقيقه إبراهيم، وتجمع الشقيقين روابط الدم، وجمعهم ميدان المقاومة فأشهرا سيف المواجهة أمام جنود الاحتلال الذين وصلت أيديهم إلى المخيم.
كلمات يملؤها الإيمان والتحدي في آن واحد بعث بها عويضات الأب: "ابني سيقتله الاحتلال سواءً في بيته أو في أثناء سيره بالطريق، أو عندما يقتحم المخيم وبيوت الجيران، فأنا عندما أخرج بسيارتي أقف متصلبًا بلا حركة خشية أن أثير شكوكهم فيقتلوني كما يفعلون بالشبان في كل مكان، واقع ظالم نعيشه".
يزيد بحرقة قلب: "صحيح أن الاحتلال قتل أبنائي لكن سيخرج من المخيم ألف إبراهيم ورأفت".
"وردتان" بـ"عقبة جبر"
لم يسمع الأب نجليه تحدثًا يومًا عن رغبتهما بالزفاف، أو عن أي أحلام حياتية، فلم يطلبا شراء سيارة حديثة، كانا كل ما يفكران به هو مقارعة الاحتلال، وأن تكون خاتمة طريقهما "الشهادة" التي رسمت بدمائهم بعد معركة استمرت عدة ساعات، سبقها بأيام اتهام الاحتلال للمجموعة باستهداف مطعم للمستوطنين أواخر يناير/ كانون الثاني الماضي.
يصف نجليه بأنهما "مثل الوردة"، تسكن صوته حسرة الفقد: "كانا يتنفسان هواء المخيم، يشاركان بأنشطة مختلفة، بالذات الأنشطة الرياضية في النادي وكانا يشجعان فرق المخيم، فهما يعتبران المخيم كل شيء، انتميا إليه وفي نظرة أوسع انتميا للوطن وسارا في طريق واحد".
يقع مخيم "عقبة جبر" شرق الضفة الغربية وبالرغم من بعده عن مخيمات اللاجئين الفلسطينيين الأخرى بالضفة، إلا أن عويضات يعطي صورة قريبة عن ما يحدث داخل المخيم ويربطها بما يحدث ببقية المخيمات، قائلًا: "هي نفس الانتهاكات، والاعتداءات كما يقتحم مخيم جنين، يقتحم الاحتلال مخيمنا باستمرار، فكبر أبنائي وهما يشاهدان هذا الإجرام"، مؤكدًا أن "الظلم يولد انفجار".
استطاعت والدتهما مقابلتهما قبل يومين من ارتقائهما، شاهدت نجليها سعيدين بما فعلاه وهما يسألانها: "شفتينا يما شو سوينا فيهم ولسى حنسوي أكثر" كانت تبكي لأنها تعلم أن لذلك الفعل المقاوم ثمن قدمه آلاف الشهداء ممن ساروا على ذات الدرب والنهج، لن تنفعها معانقتها لهما، في حين كانت ملامحهما ترسمُ سعادة تعجبت منها في "لقاء الوداع".