من حيث لم يتوقع الاحتلال، امتدت جذوة المقاومة المشتعلة في الضفة الغربية إلى مدينة أريحا شرقًا، وتحديدًا في مخيمها "عقبة جبر" الذي أفاق صباح أمس، على أصوات مآذن مساجده وهي تنعى خمسة شهداء ارتقوا في أثناء تصديهم لقوات الاحتلال الإسرائيلي.
تحصن رأفت وائل عويضات (21 عامًا) وشقيقه إبراهيم (27 عامًا)، ومعهما مالك عوني لافي (22 عامًا)، وأدهم مجدي عويضات (22 عامًا)، وثائر خالد عويضات (28 عامًا)، في كرفان خشبي مسقوف بـ"الكرميد" بعد مطاردة الاحتلال لهم، وحصار المخيم لأكثر من 10 أيام، لكن أعين الاحتلال وصلتْ إليهم، ليخوضوا اشتباكًا "عنيفًا" مع قوات الاحتلال.
دماءٌ امتلأت بها أرضية الغرفة الخشبية، روت قصة ملحمة بطولية أحيت المقاومة في هذه البقعة، وثقوب كثيرة تملأ الباب والجدران التي لم توفر لهم حماية من رصاصات انهالت عليهم من بنادق جنود الاحتلال الذين حاصروهم، وأوقدوا بدمائهم شعلة ثورة لا تنطفئ في منطقة كانت يعدها الاحتلال بقعة آمنة.
فصل جديد للمواجهة
خمسة شبان رسموا بدمائهم خريطةً جديدة للمواجهة، في منطقة لم يتخيل الاحتلال يومًا أن تطلق عليه منها رصاصة، في منطقة تحيط بها الجبال من عدة جهات، حيث يقع مخيم "عقبة جبر" أحد أكبر مخيمات الضفة مساحة بالرغم من أن عدد سكانه يقاربون 10 آلاف نسمة بعد تشرد قسم كبير منهم للأردن عام 1967.
كما لم يشهد المخيم أي أحداث مقاومة منذ توقيع السلطة اتفاقية مع دولة الاحتلال عام 1994 كأحد الملحقات الأمنية والإدارية لاتفاق "أوسلو"، ليكتب الشهداء بحبر الدم فصلاً جديدًا من المواجهة.
لم يمنع الفقر المدقع والإهمال الذي يعانيه المخيم، من وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا" ومن السلطة التي أدارت ظهرها عن حماية المخيم، الشباب من الانخراط في المقاومة، في وقت لا يبعد سجن السلطة المعروف باسم "مسلخ أريحا" كثيرًا عن مسرح جريمة اغتيال الشبان والمجزرة التي ارتكبها الاحتلال في المخيم.
اقرأ أيضا: 5 شهداء من كتائب القسام في اشتباك مع قوات الاحتلال بمخيم عقبة جبر بأريحا
لسنوات ظل الاحتلال يعتبر مدينة أريحا "آمنة" له، قبل أن يتحدث عن عملية إطلاق نار تجاه مطعم للمستوطنين نهاية يناير/ كانون الثاني الماضي، تلاها اقتحام المخيم وخوض اشتباك مع المقاومين الذين تصدوا إليه ببسالة، وقد اعترف الاحتلال بإصابة جندي بـ"شظايا" رصاص، قبل أن ينسحب ويعود للاشتباك مع نفس المقاومين، الذين تبنتهم كتائب القسام، معلنة ولادة "كتيبة عقبة جبر" ومدونين بحبر الدم أسماءهم ليكونوا أول شهداء "الكتيبة" والمخيم.
شقيقا الدم والمقاومة
"حكولي شفتينا يما شو سوينا فيهم؟" بدموع هاربة ترفض الانصياع لوصية ابنيها الشهيدين رأفت وإبراهيم عويضات أمام قسوة الفقد، تروي تفاصيل آخر لقاء لها مع نجليها قبل يومين.
أمام نسوة يلتففن حولها، لمواساتها أو "تهنئتها" بعرس الشهادة، تتكئ على عكاز الصبر أمام جرحين زارا قلبها مرةً واحدة: "قابلتهما أول من أمس، عانقتهما وكنت أبكي وهما سعيدان بما فعلاه، يقولان لي: شفتينا يما شو سوينا في اليهود؟ ولسا حنسوي أكثر".
ترثي فقدهما: "هما من زينة الشباب، كل الصفات الجميلة فيهما، الصلاة، والطيبة، عندما كانا يتحدثان لي عن الشهادة والمقاومة، كنت أقول لهما: الصلاة جهاد، لكنهما لم يتحملا ما يحدث من جرائم الاحتلال، فطلبا الشهادة ونالاها، الحمد لله".
"هذا طريقهما الذي اختاراه".. كلماتٌ صابرة محتسبة ممتلئة بالإيمان بعث بها والد الشهيدين الأمل في نفوس أبناء المخيم، في وقتٍ نكست فيه رايات الحزن حدادًا على أرواح الشهداء الخمسة، قالها متوشحًا بالكوفية وهو يستقبل المعزين على مدخل منزله، يؤيد والدهما طريقًا رسماه نجلاه بدمائهما.
يتساءل بحرقة: "قليل اللي قاعدين بشوفوه؟" قبل أن يجيب عن السؤال السابق قائلاً: "العنف يولد انفجارًا، أبنائي مثل الوردة، متعلمان، لكن هذا طريقهما، والمولى أعطاهما ما يريدان".
على مقربةٍ من المكان، عج منزل الشهيد أدهم عويضات، بالمعزيات اللواتي أحطن بوالدته وتوافدن من كل أنحاء المخيم ومحافظة أريحا، تقول بعينين محمرتين تحاول حبس دموعها، والاستجابة لوصية نجلها بعدم البكاء عليه: "كان محافظا على صلاته، مؤدبًا، لديه صفات جميلة، وكان يطلب الشهادة".
تقابلت قبل يومين مع نجلها أدهم، بعد اشتباكه الأخير مع قوات الاحتلال التي فشلت في اعتقاله أو قتله حينها، تطفو التفاصيل على حديثها: "رأيته يقف مثل الجبل شامخًا، قرأت عليه آيات من القرآن الكريم، وعانقته، فمسح دموعي وقال لي: "كلنا رايحين هاي الطريق، ونحن فدا الأقصى".
تعلق: "أوصاني ألّا أبكي عليه، أوصاني على شقيقه الصغير (عامان) كان يحبه كثيرًا، أن أهتم به، وعلى إخوته ووالده، وأن نرضى عنه، ونحن راضون عنه".
من بين الشهداء المشتبك، مالك لافي، أصيب بكسر في منطقة الحوض في ديسمبر 2021، في أثناء مطاردة أجهزة أمن السلطة سيارة كان يستقلها هو وأمير اللداوي -استشهد في إثرها أمير-، بسبب رفعهما رايةً خضراء في أثناء استقبال المحرر شاكر عمارة، ارتقى مالك اليوم، واعتقل عمارة أيضًا.