"مع السلامة يا مسك فايح".. كلمات حانية رددتها أم العبد خريوش (52 عامًا) وهي تجلس بجوار رأس عز الدين صلاحات المضرج بدمائه ممددًا بلا حراك، تغطيه بملاءة، تحتضن رأسه الكوفية، بعدما استطاع نجلها بالدفاع المدني سحبه إلى داخل المنزل، ليمكث عندها 4 ساعات منعت خلالها قوات الاحتلال سيارات الإسعاف نقله للمشفى.
مع دخول القوات الخاصة لمخيم جنين صبيحة الخميس الماضي، كان الشاب صلاحات (21 عامًا) أول المقاومين الواصلين للخطوط الأولى، وخاض اشتباكًا مع تلك القوات، مثلت حجارة منزلها ساترًا له، حمته من النيران، قبل أن تلتف عليه قوةٌ إسرائيلية من الجهة المقابلة وتطلق عليه رصاصات اخترقت قلبه وأصابت منطقة الخاصرة والقدمين.
أربع ساعات
"عندما سمعنا أصوات اشتباكات ونداءات استغاثة، سحبه ابني لداخل المنزل رغم إطلاق النار عليه، فأزحت اللثام عن وجهه، لنكتشف أنه صديقه عز الدين الذي تربى في منزلنا وأعدّه مثل ابني. استُشهد منذ اللحظات الأولى فلا نفس أو روح فيه، وبقي عندنا أربع ساعات" بنفس النبرة المتألمة التي ودعته بها، تستحضر "خريوش" لصحيفة "فلسطين" تلك التفاصيل.
لم يكن دخوله المنزل شهيدًا، سوى آخر زيارة للشهيد صلاحات، الذي يعد صديق الطفولة لابنها، "منذ طفولته كان يزورنا، لا أنسى ابتسامته، كان يعدُّني كأمه، وأحيانًا عندما يكون ابني خارج المنزل كنت أتصل به ليشتري لي بعض الأغراض، ولا يتوانى عن تلبية ما احتاج".
لم تنسَ حينما أصيب نجلها في مهمة عمل بالدفاع المدني، ونقل للعلاج بمستشفيات نابلس واضطرت للانتقال للسكن هناك لشهرين ما فعله صلاحات معهم: "لم يتركنا عز الدين وكان يأتي لتفقد احتياجاتنا والاطمئنان على صديقه، الذي رد له الجميل وحاول إسعافه بين الرصاص".
"ودعتك يما ويا مصعب رحيلك، يا مهجة قلبي من قلبي بدعيلك، ريت السما ترعاك، ديري بالك على البارودة، راح وخلاها، قلي غنيلي تعيطيش غنيلي، طلت البارودة والسبع ماطل، جابولي البارودة وعزالدين ماجاش" كلمات امتزجت بالألم سكنت صوت والدته وهي ترثيه.
ملامح خلف اللثام
مساء الأربعاء، عاد عز الدين إلى منزله، ارتدى ملابسه ونثر أفضل العطور المحببة لديه كعادته، وودع والدته وشقيقه الأكبر "إياد" وانطلق للرباط في صفوف المقاومين يخفي ملامحه خلف لثام أسود، تحسبًا لأي غدرٍ إسرائيلي، "لا ينام بالليل داخل المنزل، وفي النهار يتخفى من الاحتلال، لم أره في حياتي يكشف عن وجهه" يقول شقيقه إياد لصحيفة "فلسطين".
لم يكن الفيديو المنتشر عن لحظة اغتياله، سوى نهاية معركة طويلة خاضها يعيد صلاحات سرد تفاصيلها: "اشتباك أخي استمر نحو 15 دقيقة، وهناك فيديو وثقه أحد الجيران يثبت ذلك، حيث كان يطلق النار على المجموعة الأولى من جيش الاحتلال وهو أول من اكتشف القوات الخاصة ولم يرونه، لدرجة أنه لم يتبقَّ من رصاص مخازنه الأربعة سوى سبع رصاصات فقط قبل أن تأتي قوة أخرى من الجهة المقابلة واغتالته".
قدومه محمولاً على الأكتاف ورغم قسوة الفقد، إلا أن شقيقه توقعه "نحن نعرف دربه وأنه صادق مع الله، في كل مرة يخرج فيها من المنزل كنا نتوقع أن يعود شهيدًا، كان صديقًا لكل شهداء وأبطال المخيم بلا استثناء، اكتسب محبة الجميع، معروف بطيبته وحب الناس له".
من طفولته، نشأ صلاحات على لعب كرة القدم في شوارع المخيم، وكان يحلم أن يصبح لاعبًا محترفًا، تأثر بوالده واقتدى به وحمل مهاراته وصفاته في اللعبة الرياضية، وفي الوقت نفسه كان يستيقظ صبيحة كل يوم على جرائم إعدامات وجنازات وتشييع، فكان لاعب المنتخب وحارس المخيم.
مثّل صلاحات المنتخب الفلسطيني الأولمبي لكرة القدم ودافع عن ألوانه داخل المستطيل الأخضر، ولعب مع ناديي جنين واتحاد الشرطة في الدوري المحلي، إضافة إلى أنه نجل الرياضي المعروف ياسين صلاحات الذي يشغل منصب مقيّم حكام في اتحاد كرة القدم، كما دافع عن المخيم بالبندقية وسجل هدفه الأخير بالدم.
يدافع عن خيار شقيقه "أخي عز نال من اسمه نصيبًا، فقد عاش في عز ودلال، سافر وجاب مع المنتخب بلدانُا عديدة منها قطر والسعودية ومثّل المنتخب، وحقق أمنيته في لعبة كرة القدم، لكنه قاتل ودافع عن بلده وهذا الأهم فنحن تحت احتلال والجهاد فرض، وربما أيقظ أخي أناسًا كثيرين من غفلتهم وتأثروا بشجاعته".