"الحرف العربي فيه من السحر ما لا يمكن إدراكه إلا بالممارسة، فكل حرف من الحروف تشعر أن عليه نورانية تُمكن ممارس الخط من التماهي والتمازج مع الحرف وكأن فيه رقصة كونية لا نهائية"، بهذا استهل الخطاط سعيد غنايم الملقب بـ(النهري) حديثه عن موهبة الخط العربي ومكانته.
"غنايم" من بلدة سخنين، خطاط اجتهد على نفسه وتعلم الخط العربي الكلاسيكي بأقلامه الثمانية وأجادها كتابة ورسمًا، وأجيز بها من أستاذه المرحوم محمد صيام، ثم من رئيس نقابة الخطاطين المصريين الأستاذ مسعد خضير البورسعيدي، واستطاع التعمّق في تقنيات الخط المتاحة، فيرى أن الخط العربي هو الفن الوحيد الذي يقدم رسالة الأمة العربية والإسلامية في أجمل صورة، ويصف كلام الله سبحانه وتعالى في أبهى حلة جمالية.
يعود بذاكرته إلى بدايات رحلته مع فن الرسم الذي ظهرت بوادره في الصف الثالث الابتدائي، ليجد ممن حوله من الطلاب ومدرسته التشجيع، والتوبيخ من أهله وأساتذته لأنهم يعدون الرسم موضوعًا تافهًا ولا مستقبل له "ما بطعمي خبز".
ويقول غنايم لصحيفة "فلسطين": "لكن الله شاء أن أكون الأول دائمًا في مواضيع الفنون إلى أن التحقت بكلية الفنون والتصميم الطباعي في جامعة حيفا، وكنت الطالب العربي الوحيد في هذا الفرع، ونجحت بامتياز على الرغم من كل العراقيل السياسية والثقافية".
ولأنه يؤمن بأن التطور حاجة ملحة لكل فنان، يقول إنه عمل بعد ذلك للاطلاع على الفنون البصرية المحلية والفلسطينية والعالمية، وعلى تطوير وتجديد الخط العربي ليواكب العصر والعالمية، بدراسات مستفيضة للحَرف العربي وجمالياته وهندسته الرائعة، "فخرجت بأسلوب سميته فنيًا بالأسلوب السيميائي وقد لاقى مكانة بين فناني العالم العربي والعالم الإسلامي".
والأسلوب السيميائي التعبيري أو التشبيهي هو عبارة عن فهم لمضمون اللوحة الخطية بممازجة الرسم بالخط العربي، وهذا ما سهل على من لا يقرأون اللغة العربية قراءة اللوحة وفهم المضمون عن طريق الشكل.
إرث وهوية
وتدرج "غنايم" في الفن التشكيلي وصولًا إلى الخط العربي بدافع الحاجة الماسة ليثبت مصداقية ما يحلم به من تغيير ومزاحمة الفنانين العالميين على مكان له بينهم، فلا بد من التجديد والتحديث والإبداع، مشيرًا إلى أن للخط العربي مكانة راقية بين الفنون العالمية.
ويرجع اهتمامه بالخط العربي لكونه إرثًا وطنيًا وإثبات هوية، خاصة أنه يقبع تحت الاحتلال الإسرائيلي، فرأى أن واجبه إحياء هذا الفن بين جيل الشباب من جديد، والافتخار به خاصه بعد دخول التقنيات التكنولوجية الحديثة التي نازعت الخطاط والفنان في فنه.
وعما جعل غنايم يتمسك بالخط العربي، يقول: "في عام 1996 عُقدت جلسة في الكنيست الاسرائيلية لطردي من البلاد لكوني عملت رسام كاريكاتير في صحف محلية وعالمية، واستطاعت رسوماتي استفزاز المؤسسة الصهيونية والمخابراتية، فأخذوا كاريكاتيراتي لجلسة الحكومة وصدر القرار بالطرد، فتدخلت جمعيات حقوق الإنسان ومثقفين ومحامين لمنع القرار ونجحوا بذلك، لكن كان الضغط علي أكثر أن أترك موضوع الكاريكاتير لخطورته على حياتي وهويتي وأرضي، فتحولت للخط العربي لأنه يحمل الرسالة نفسها".
وبات غنايم يجيد كل أنواع الخط العربي ويدّرسه لطلابه وعشاق الخط في الكليات والمعاهد والمدارس والجمعيات.
ويلفت إلى أن الخط العربي هو جزء من الرسم، ويسمي ممارسة الخط برسم الحروف، لذا قالوا: خير الخطاطين الرسامون، والرسم يساعد على الإتقان وإجادة الحروف بأعلى المستويات.
رابط روحي
ويستلهم غنايم من القرآن الكريم أعماله الفنية، إذ يجد في آياته رابطًا روحيًا وعقليًا يُعظِمُهُ صوت كبار القراء صوتًا وتجويدًا، مشيرًا إلى أن لديه طقوسًا خاصة قبل أي لوحة، كأن يكون على وضوء، ويكثر من الاستغفار والصلاة والسلام على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ومداومة الذكر للوصول للصفاء الروحي والجسدي، "فيأتي الإلهام بلا وساطة".
فعندما يشعر بضيق والدنيا ضاقت في وجهه ينجز لوحة "المُذّل"، وهي عبارة عن صورة إنسان جالس على ركبتيه بصورة توحي بمشاعر الذل والانكسار وتبرز فيه حركة الضمة مهيمنة على اللوحة، أما في لوحة "الرافع" والتي يعبر فيها عن انتعاش حالته النفسية، أما لوحة "البارئ المصور" فولدت مع ملاحظته لزنبقة تتفتح في حديقة بيته بالصباح أوحت له بعملية خلق الكون.
وللنهري جملة من الأسس التنظيرية التي تؤسس للبعد الثالث (السيميائي أو التعبيري) الذي ترتكز لوحاته عليه، ويتركز الإبداع الخطي لدى النهري على البعدين التكويني البنيوي، والبعد الجمالي، فضلًا عن الثالث وهو البعد التعبيري أو السيميائي، ويمثل هذا التوجه إضافة نوعية للتحولات الكبرى في المسار التجويدي لمسيرة الخط العربي ودلالاته النصية.
وعن مكانة الخط العربي اليوم، يقول نهري: "للخط العربي اليوم مكانة أفضل من سنوات خلت، فهو من الفنون التي وصلت القمة جماليًا، وصار له تأثير حتى على فناني ومثقفي الغرب، وهو في نمو وسمو دائمين".