فلسطين أون لاين

الجمارك الباكستانية ضبطت السفارة متلبِّسة بـ"قضية خمور"

تحقيق سفارات السلطة.. معاقل أمنية و"بزنس خاص" وتهريب ممنوعات!

...
سفارات السلطة معاقل أمنية و"بزنس خاص" وتهريب ممنوعات!
غزة/ جمال غيث:

على وقع اندلاع أزمة دبلوماسية بين السلطات الباكستانية والسلطة الفلسطينية التي ضُبطت سفارتها في البلاد بقضية تهريب شحنة خمور، طفى على السطح مجددًا ملف سفاراتها وتمثيلياتها حول العالم، وأعاد إلى الذاكرة قضايا جدلية حول دورها.

ففي 11 يناير/ كانون الثاني 2023، ضبطت الجمارك الباكستانية حاوية خمور مهربة لحساب سفارة السلطة في البلاد، تحت غطاء "بضائع دبلوماسية"، وقد احتوت الشحنة على 10548 زجاجة تحتوي على مشروبات كحولية متنوعة، و2160 زجاجة بيرة، وفق صحيفة "ذا إكسبريس تريبون" الباكستانية.

حينها طلبت وزارة الخارجية الباكستانية من سفارة السلطة الحضور في أثناء فحص الحاوية، إلا أن الأخيرة تهربت من المسؤولية ونفت صلتها بالأمر، ولم ترسل أي مندوب عنها في أثناء عملية الفحص.

لكن في مقابل ذلك، تحدثت تقارير باكستانية عن استغلال سفير السلطة في البلاد أحمد ربعي للإعفاء الجمركي الخاص بالبعثات الدبلوماسية، في الإتجار باستيراد السيارات "والكسب الخاص" غير المشروع، وذلك في مخالفةٍ لوظيفته وخرقٍ للأعراف الدبلوماسية.

ولم تكن جريمة تهريب سفارة السلطة في باكستان الخمور الحادثة الأولى من نوعها، فقد سبقها سلسلة انتهاكات ارتكبتها سفاراتها في مختلف دول العالم، وانتهت باعتبار سفرائها "أشخاصًا غير مرغوب بهم" على أراضي الدول المضيفة.

  • عابدين: ينبغي إقالة المالكي من منصبه على إثر فضائح بعثات السلطة المتكررة

في هذا التحقيق الاستقصائي، تضع صحيفة "فلسطين" ملف سفارات السلطة وممثلياتها على الطاولة مجددًا، لمناقشة دورها والعاملين فيها، إلى جانب الكشف عن تجاوزات ومخالفات قانونية ارتكبتها "بعلم من السلطة والمتنفذين فيها".

فضيحة كبرى

وعد الخبير القانوني عصام عابدين أن سفير السلطة في باكستان انتهك العمل والأعراف الدولية، واستغل صفته الدبلوماسية لتهريب خمور والإتجار غير المشروع وتحويل مقر السفارة إلى وكر للتهريب والفساد، متوقعًا تعامل السلطات الباكستانية معه بأنه "شخص غير مرغوب به" على أراضيها، وفقًا لاتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية.

ووصف عابدين في تعليق له ما فعلته سفارة السلطة في باكستان بأنه "فضيحة كبرى، وإهانة للشعب الفلسطيني ونضاله"، مردفًا: "طالما تكررت تلك الفضائح في أداء سفاراتنا وبعثاتنا في الخارج، ومقر وزارة الخارجية، ما أدى لاحتقار وانهيار الثقة بالدبلوماسية الفلسطينية عمومًا، في عيون الفلسطينيين والمتضامنين معنا".

وأكد أنه ينبغي على رئيس حكومة رام الله محمد اشتية إقالة وزير الخارجية رياض المالكي من منصبه على الفور، على أثر الفضيحة المدوية في باكستان، وتكرار فضائح السفارات والبعثات الفلسطينية في الخارج، باعتباره المسؤول الأول عنها، وذلك وفقًا لأحكام نص المادة (74) فقرة (2) من القانون الأساسي الفلسطيني.

غير مرغوب فيه

وفي حادثة ليست بعيدة، أعلنت جمهورية نيكاراغوا في يونيو/ حزيران 2022، بأن سفير السلطة لديها محمد عمرو "شخص غير مرغوب فيه" على أراضيها، وقد وصل بالفعل إلى رام الله.

وقال دبلوماسي، في حديث لصحيفة "فلسطين"، فضل عدم ذكر اسمه: إن السفير "عمرو" اعتدى في 28 أبريل/ نيسان 2022 بالضرب على دبلوماسية تعمل في السفارة بعد نقاش حاد بينهما، ولم يكتفِ عند هذا الحد بل دفعها بقوة.

وأضاف الدبلوماسي أن الموظفة هربت على أثر الاعتداء عليها إلى غرفة مكتبها وأغلقت الباب على نفسها، فاشتاط غضب السفير، وبدأ يطرقه بقوة إلى أن تمكن من فتحه ليعتدي عليها مجددًا، قبل أن يُلقي بها خارج أسوار السفارة، ويهددها بعدم الحضور للمقر، ما دفعها لإبلاغ السلطات بما جرى.

وأوضح أن وزارة الخارجية في نيكاراغوا أرسلت عدة رسائل إلى الوزير "المالكي" لاستيضاح ما جرى، لكن الأخير لم يرد عليها، لتعلن الجمهورية في يونيو السفير "عمرو" "شخصًا غير مرغوب فيه"، وهو ما دفع رئيس السلطة محمود عباس إلى استدعائه لتجنب تبعات القرار، والحفاظ على حالة التقارب مع الجمهورية.

و"شخص غير مرغوب فيه" وصفٌ يعني أن الدبلوماسي الأجنبي أصبح محظورًا دخوله أو بقاؤه في الدولة التي تعتمده، عقوبة له على تصرفاته الشخصية حين يرتكب جريمة قانونية لا يُمكن أن يعاقب عليها بسبب حصانته الدبلوماسية.

بيع السفارة

وخلال البحث كشف معد التحقيق أيضًا عن عدد من التجاوزات التي ارتكبها سفراء السلطة، منتهكين بها الأعراف الدولية المتفق عليها عالميًا، منها: محاولة السفير ماجد هديب في موريتانيا عام 2020 بيع مبنى السفارة الذي منحته الدولة للشعب الفلسطيني بنصف مليون دولار، بعدما أجرى فيه بعض الإصلاحات بقيمة 50 ألف دولار، وتحويله إلى عقار تجاري، لكن المحاولة فشلت بعد كشف السلطات للأمر.

  • العجرمي: معظم سفراء السلطة مرتبطون بعلاقات أمنية و"اغتيال النايف" يكشف ذلك

ولم يتوقف الحال عند هذا الحد، بل وقع خلاف في سبتمبر/ أيلول 2020 بين السفير "هديب" ورئيس الجالية الفلسطينية في موريتانيا حمدان رشيد، تبعها اعتقال الأخير والخبير القضائي المتقاعد عمر بكري، بتحريض وشكوى من السفير؛ لكشفهم بعض تجاوزاته.

وبين ناشط في مكافحة الفساد أنه في 20 أكتوبر/ تشرين الأول 2020، اقتحم دبلوماسي ليبي مع رجلين سوريين مقر سفارة السلطة في نواكشوط، وحطموا محتوياتها وأطلقوا الغاز داخل المبنى قبل توقيفهم، مؤكدًا أنه على أثر تجاوزات السفير "هديب" ومخالفاته القانونية جرى طرده من البلاد، ليحل محله السفير محمد الأسعد.

وفي أثناء البحث برزت فضيحة لسفير السلطة في إسبانيا موسى عودة، الذي ظهر في مقابلة تلفزيونية في مايو/ أيار 2021 يتلعثم في الحديث باللغة الإسبانية، على الرغم من مرور 15 عامًا على عمله في السفارة دون معرفته لغة الدولة المبتعث إليها.

وخالف السفير "عودة" وزوجته هالة فريز التي شغلت منصب سفيرة في السويد بين العامين 2011 و2021، القانون الذي ينص على أن عمل السفير يكون مدة 4 سنوات، يجدد مرة واحدة مدة عام، وقد تسلمت رولا محيسن ابنة القيادي في حركة فتح الراحل جمال محيسن العمل بدلًا من "فريز" في مارس/ آذار 2022.

رجل أمن

كما خالفت السلطة أصول العمل الدبلوماسي، حينما عينت رجل الأمن عبد الكريم الخطيب قنصلًا عامًا لها في إسطنبول، وذكر الدبلوماسي السابق د. ربحي حلوم أن "الخطيب" الذي توفي نهاية عام 2018، كان لا يفقه شيئًا في العمل الدبلوماسي ولا يحمل شهادة فيه، لكنه عُيّن لقربه من مستشار عباس للشؤون الدينية والعلاقات الإسلامية محمود الهباش.

ويشترط فيمن يتقدم للعمل بوظيفة من وظائف السلك الدبلوماسي، أن يكون حاصلًا على الدرجة الجامعية الأولى على الأقل، وأن يعيَّن وفقًا لمسابقة عامة تجريها وزارة الخارجية لاختيار موظفيها، ويتم الاختيار من لجنة متخصصة تشكل لهذا الغرض، ويحدد النظام شروط ذلك، وفق ما نصت عليه الفقرة الثانية من المادة (11) من قانون السلك الدبلوماسي رقم (13) لسنة 2005.

وانتقد حلوم في أثناء حديثه لمعد التحقيق عمل سفارات السلطة وبعثاتها، قائلًا: "بكل مرارة أقول إن حضور وتحرك معظم البعثات الدبلوماسية التابعة للسلطة في الخارج لا يرقى إلى مستوى نبل القضية الفلسطينية وعدالتها".

وأضاف: إن "معظم العاملين في السلك الدبلوماسي ليس لديهم الأهلية لتمثيل أعدل قضية على وجه الأرض، وأداء مهامهم بالشكل المطلوب، ومواكبة حضور أقرانهم مبعوثي الدول الأخرى في ساحاتهم، لافتقارهم للخلفية النضالية ولأبسط مقومات العمل وقواعده".

وأرجع حلوم سبب تردي الوضع الدبلوماسي الفلسطيني إلى "المحسوبية والفساد المستشري، والشللية (نظام العصابات)، وصلة القرابة التي تربط الأشخاص المعينين بالسلطة الحاكمة" والمتنفذين فيها.

وكان حلوم نائبًا لرئيس الدائرة السياسية في منظمة التحرير، المساهمة في وضع قواعد وأسس ومعايير المبعوث الدبلوماسي، الذي يفترض أن يمثل فلسطين في أي دولة، وقد أعرب عن أسفه لانهماك سفراء وعاملين في سفارات السلطة بأعمال تجارية غير معلنة، مستغلين الإعفاءات الجمركية التي يتمتعون بها وفق البروتوكولات الدبلوماسية، إذ ينخرطون في استيراد بضائع وسيارات ومواد رائجة، ثم بيعها في ساحات عملهم.

وأكد أن هناك الكثير من السفراء والعاملين في السفارات مشغولين بتكديس الثروات الطائلة، بتغطية من قياداتهم المنشغل معظمهم في الفساد ذاته، بدلًا من التحرك والانشغال في جوهر مهامهم الرسمية المنوطة بهم.

  • السويطي: التعيينات تقتصر على "عظام الرقبة" والدبلوماسيون منشغلون بمشاريعهم الخاصة

وأشار إلى أن السفراء لا يلتزمون بأنظمة وقوانين الدول المضيفة، ففي غالب الأحيان يتحايلون عليها بالتسلح بالحصانة الدبلوماسية، وما توفره لهم من حماية وتسهيلات يستغلونها في غير وجهها الحقيقي.

ورأى أن بقاء السفير على رأس عمله أعوامًا طويلة في الدول المضيفة يؤكد وجود خلل في المنظومة ومخالفة القانون، مدللًا على ذلك بسفير السلطة في إيران صلاح الزواوي، وسفيرها السابق في ألمانيا عبد الله الإفرنجي، اللذان عملا أكثر من 40 عامًا، وسفيرها في المغرب وجيه قاسم الذي عمل 35 عامًا.

وأضاف حلوم أن ما يجري في منظومة السلطة الدبلوماسية يدلل على عدم احترام القوانين واللوائح، مرجعًا أسباب بقاء السفراء أعوامًا طويلة على رأس أعمالهم إلى موالاتهم عباس وحاشيته.

وأظهر التقرير السنوي الرابع عشر الصادر عن الائتلاف من أجل النزاهة والمساءلة "أمان" لعام 2021، أن 59% من السفراء تجاوزوا المدة القانونية المسموح بها للبقاء في مناصبهم، في مخالفة لقانون السلك الدبلوماسي الذي ينص على 4 أعوام، مع إمكانية التجديد لسنة واحدة فقط في الدولة ذاتها.

ورصد التقرير أن 40% من قرارات تعيين السفراء نشرت في صحيفة "الوقائع"، في حين لم ينشر 60% من القرارات.

"عظام الرقبة"

ومن أبرز الفضائح المستشرية في السلك الدبلوماسي، ما قاله الناشط في مكافحة الفساد فايز السويطي عن نظام التعيينات الذي يقتصر على "عظام الرقبة"؛ أي المقربين من السلطة ورئيسها والمتنفذين فيها.

وأكد السويطي، لمعد التحقيق، أن تمثيليات السلطة الدبلوماسية لا تقوم بواجبها الملقى على عاتقها "فلو فعلت ذلك لما رأينا حجم الهرولة إلى التطبيع مع الاحتلال"، متسائًلا: "ما الدور الذي تقوم بها سفاراتنا في الخارج؟، ليجيب نفسه: هم لاهون بإقامة مشاريع خاصة تدر عليهم الدخل".

وعدّ تعيين رولا محيسن؛ ابنة القيادي الفتحاوي الراحل جمال محيسن، سفيرة للسلطة في السويد، وتوريث صلاح الزواوي ابنته سلام السفارة الفلسطينية في إيران بداية العام الماضي، أحد أبرز أشكال الفساد.

وأكد أن التعيين في سفارات السلطة لا يتم وفق الأصول، ففي حال الإعلان عن وظائف يُختار الموالين للسلطة، مشيرًا إلى أن تعيين وزير الخارجية العاملين في هذا المجال ملفت للانتباه.

وقال السويطي: إن تعطيل عباس عمل المجلس التشريعي نهاية عام 2018 ساهم في تغول ممثليات السلطة في أماكن وجودها، وتشجيع العاملين فيها على الغرق بمشاريعهم الخاصة.

وأكد عدم وجود إرادة حقيقية لمحاربة الفساد المستشري في السفارات، مدللًا على ذلك بتعرضه للاستدعاء 10 مرات، و4 مرات للاعتقال، ورفع 7 قضايا ضده من السلطة، لإسكاته والتوقف عن النبش في ملفات الفساد، بالإضافة إلى محاولات استقطابه للعمل معها "لكنني رفضت ذلك".

واتهم السويطي هيئة مكافحة الفساد في رام الله بعدم القيام بواجبها المنوط بها، لافتًا إلى أنه تواصل معها وسلمها العديد من الملفات التي تتعلق بفساد ممثليات السلطة والعاملين فيها "لكن دون جدوى"؛ كون كبار العاملين فيها موالين للسلطة.

سحب تقرير غولدستون

وشهدت نهاية عام 2009 صدمة في الأوساط الفلسطينية والدولية، عندما أقدم دبلوماسي يعمل بسفارة السلطة في جنيف بسحب تقرير المحقق الجنوب إفريقي ريتشارد غولدستون، قبل التصويت عليه بأيام، من مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، وفق ناشطة حقوقية.

  • حلوم: دبلوماسية السلطة قائمة على "الشللية" ودرجة قرابة المتنفذين فيها

وأوضحت الناشطة المقيمة في جنيف (تتحفظ صحيفة فلسطين على اسمها) أن دبلوماسيًا يعمل ضمن طاقم السفارة أفشل تقرير غولدستون، الذي يعد إدانة للاحتلال على جرائمه التي ارتكبها في أثناء عدوانه نهاية عام 2008 على القطاع، وذلك استجابة لضغوط أمريكية وإسرائيلية.

وأضافت أنه في اجتماع خاص لبعض دول العالم في مجلس حقوق الإنسان لدعم التقرير والتصويت عليه، "صُدمت عندما أبلغني صحفي كان يحضر الاجتماع وقال لي حرفيًا: "الموضوع فرط"، وذلك بعدما اتصلت السفارة الأمريكية بالدبلوماسي المذكور وطلبت منه سحب مشروع التصويت، ليُعلن وقتها عن قبر التقرير".

وكان تقرير غولدستون قد أدان الاحتلال بارتكاب جرائم حرب ضد الإنسانية، واستعمال أسلحة محرمة دوليًا في أثناء العدوان على القطاع نهاية عام 2008، الذي راح ضحيته أكثر من 1400 شهيد، وأكثر من 5000 جريح.

علاقات وتورط

وللتعرف أكثر على عمل سفارات السلطة وبعثاتها، التقى معد التحقيق بالمدير العام لإدارة آسيا وإفريقيا ومساعد وزير الخارجية الأسبق د. محمود العجرمي، الذي وصف ما يحدث فيها بـ"المصائب".

وكشف العجرمي أن معظم سفراء السلطة مرتبطون بعلاقات أمنية مع الدول التي يعملون فيها، مدللًا على ذلك باغتيال القيادي في الجبهة الشعبية عمر النايف داخل مقر السفارة الفلسطينية في بلغاريا في فبراير/ شباط 2016، دون وجود أحد من طاقمها في المقر، ما يؤكد تورطها في جريمة اغتياله.

وبين أن كثيرًا من السفراء لهم علاقات مع بعض الفاسدين في الدول التي يعملون فيها وخاصة التجار، فيديرون "صفقات بزنس" بعلم من متنفذين بمقر المقاطعة في رام الله، ويتقاسمون الربح.

ففي الصين وجنوب إفريقيا، اكتشف العجرمي في أثناء عمله الدبلوماسي وجود صفقات تجارية للسفراء وطاقم السفارات في إدارة مطاعم وكازينوهات ومحلات تجارية، مدللًا على ذلك باستغلال أحدهم منصبه سفيرًا في الصين، للعمل في تجارة اللحوم من منغوليا، وتوزيعها في الشرق الأوسط.

وأضاف: "عندما انتهى عمله، وتولى مهمة مقربة من الرئاسة عام 1994، كان يحصل على عمولة من السفراء الذين تولوا المنصب من بعده، كونه من فتح لهم الباب، ومنهم مصطفى السفاريني".

ونبه على أن اقتحام مقر سفارة السلطة في الصين، في التسعينات أكثر من مرة، وإجراء تفتيش دقيق لها، كان للبحث عن أوراق تثبت تورط طاقم السفارة بإقامة علاقة ببعض رجالات الأمن وتبادل معلومات حساسة.

واستغرب العجرمي وقتها من نقل السفير "السفاريني" من إدارة السفارة في الصين إلى الهند، ثم إلى اليمن بعد استدعائه لرام الله، والتحقيق معه، واعترافه بارتكاب مخالفات قانونية، فواصل عمله إلى أن أحيل إلى التقاعد؛ بسبب الشكاوى التي كانت تصل إلى رئيس السلطة عن عمله.

التغطية على الفاسدين

لم يتوقف الحال عند ذلك، ففي الهند اشتهر السفير خالد الشيخ بتجارته في الأسلحة، وإسناد عدد من المنظمات المعادية للنظام، والقول للعجرمي: "حينها أبلغني دبلوماسي هندي أن سفير السلطة يعيث خرابًا في بلدنا بتجارة السلاح، وعليكم سحبه قبل طرده وإعلانه شخصًا غير مرغوب فيه، فأبلغت وزير الخارجية الذي اتصل حينها بالرئيس الراحل ياسر عرفات لتجنب الدخول في أزمة دبلوماسية".

وأردف: "بكل أسف تم طرده، لكن الغريب في الأمر نقل السفير الشيخ إلى سفارة السلطة في اليمن، وعاد إلى تجارة السلاح بين اليمن والسعودية"، معربًا عن استغرابه الشديد من نهج السلطة في التغطية على الفاسدين.

ويعود العجرمي بذاكرته إلى 29 نوفمبر/ كانون الأول 2005، في أثناء زيارته إلى جنوب إفريقيا، وهو اليوم الذي وافق يوم التضامن العالمي مع الشعب الفلسطيني، وبعد إلقائه كلمة بالإنابة عن "عباس" ومغادرته المكان، حاول ممثلو الغرفة التجارية لقائي في الفندق المقيمين فيه، فرفضت، وأبلغني أحد رجال الأعمال الفلسطينيين في العاصمة "بريتوريا"، أنهم حضروا للشكوى بأن سفير السلطة سلمان الهرفي دمر تجارتهم، فما كان من العجرمي إلا الإبلاغ عن الأزمة.

كما كشف أن السلطة ورئيسها غضّا الطرف عن السفير "الهرفي" في فرنسا حاليًا، الذي كان قد عين سفيرًا في جنوب إفريقيا بين عامي 1995 و2005، وحينها كان على علاقة تقاربية مع السفير الإسرائيلي ويلتقي فيه بين الفينة والأخرى، وقد استدعاه ذات مرة ليكون الضيف الرئيس في ورشة عمل تطبيعية، فقاطعت دول جنوب إفريقيا الورشة لوجود ممثل الاحتلال.

وبشأن الميزانية السنوية لسفارات السلطة وممثلياتها، قدرها العجرمي بنصف مليار دولار، مؤكدًا أن هذا يتناقض مع ما أعلنته بيانات موازنة السلطة لعام 2022، بأن قيمتها بلغت 235 مليون شيقل (69 مليون دولار)، فالذي لا يحسب كالمرتبات والامتيازات والنثريات و"البوكيت موني" يتجاوز المبلغ المرصود.

ويبلغ عدد سفارات السلطة وبعثاتها الدبلوماسية حول العالم أكثر من 100، منها 23 في إفريقيا، و20 في آسيا، و34 في أوروبا، و5 في أمريكا الشمالية وأستراليا، و13 في أمريكا اللاتينية، إلى جانب الوفود والمكاتب التمثيلية في بعض الدول التي لا تعترف بحكم السلطة الذاتي أو تعترف بها جزئيًا، وفق وزارة الخارجية بحكومة رام الله.

واقع مخجل

وقال أحد الدبلوماسيين والمطلعين على عمل سفارات السلطة عن قرب (تتحفظ الصحيفة على اسمه): إن نتائج عمل السفارات والبعثات الدبلوماسية الفلسطينية في العالم "صفر"، فواقعها مخجل جدًا ويرثى له، فبات الفساد فيها مبدأ، لأن القائمين عليها لا يفقهون شيئًا عن العمل الدبلوماسي، وشغلهم الشاغل التجارة وتحقيق مكاسب شخصية، لافتًا إلى أن العديد من الدول باتت تتجاهل القضية الفلسطينية بسبب فساد سفرائها.

  • دبلوماسي: واقع ممثليات السلطة مخجل فقد نزعت حب القضية من قلوب الداعمين

وأكد الدبلوماسي، الذي يخشى الملاحقة من السلطة، أن العديد من سفرائها يعملون مع أمن البلد الذي يوجدون فيه، كمن هم في أمريكا الجنوبية والدول الأوروبية، مضيفًا "بعض البلدان كانت تحب قضيتنا وتتعاطف مع شعبنا، إلا أنها باتت لا تعترف بنا بسبب ممارسات سفرائنا، كجمهورية نيكاراغوا التي أساء إليها السفير الفلسطيني"، ناهيك عن تلاعب بعض السفراء بالمنح الدراسية، وإضافة أسماء على أهواء السفير من غير المرشحين لها، مدللًا على ذلك بمنحة الجزائر للدراسات العليا دفعة 2019 و2020، إذ شطبت سفارة السلطة أسماء طلبة، وأضافت آخرين مقربة منها، وأسماء أخرى مقابل مبالغ مالية.

وبين أن 70% من قيمة المنح التي تقدم للفلسطينيين تستغل من سفراء السلطة وعائلاتهم ومقربين منهم، وتوظف تحت بند رحلات وفنادق ومتفرقات.

وأعرب عن أسفه لما يحدث في السفارات الفلسطينية حول العالم، مؤكدًا أن عدم محاسبتهم من عباس، بل وحماية السلطة من أسماهم بـ"اللصوص"، زاد من تغولهم وتجارتهم الخاصة على حساب القضية الفلسطينية.

وكشف عن محاكمة السلطة السفير الأسبق في الجزائر منذر الدجاني؛ بسبب كشفه سرقات تورط بها شوكت مصطفى المكنى بـ"مجدي روما" الذي عمل لأعوام في مكتب الرئيس، تبعها نقل "الدجاني" إلى العمل في السفارة بمصر قبل إقصائه، عادًا أن ما حدث زاد من شراهة العاملين في السلك الدبلوماسي، والموالين للسلطة على التغول على أموال شعبنا.

ووصف بعض السفارات بأنها أشبه بـ"مزرعة للسفير وعائلته" كونهم يورثون العمل لأبنائهم، عدا عن أن التعيينات في السفارات تقتصر على الموالين للرئيس، وهي تخضع لمعايير عباس وعائلته ومحاسبه رمزي خوري، ومستشاره مصطفى أبو الرب، ورئيس جهاز المخابرات ماجد فرج، والوزير "المالكي".

ولإتاحة الرد من المسؤولين بشأن التجاوزات وقضايا الفساد المتعلقة بعمل سفارات السلطة، لم يجب الوزير "المالكي" على اتصالاتنا، فحاولنا التواصل مع مستشاره السياسي أحمد الديك الذي تذرع بالانشغال، وعند تحديد وقت لاحق للحديث حول الموضوع لم يرد على اتصالاتنا.

وأمام تعطيل عباس عمل المجلس التشريعي صاحب الدور الرقابي على مؤسسات الدولة الفلسطينية، واستشراء الفساد في كثير من سفارات السلطة وممثلياتها حول العالم، بات الرأي العام الحكم على عملها ودورها إزاء القضية الفلسطينية، التي باتت في خطر حقيقي دون وجود مدافعين أكفاء عن القضية، وكما قال الروائي الراحل غسان كنفاني: "إذا كنا مدافعين فاشلين عن القضية، فالأجدر بنا أن نغير المدافعين لا أن نغير القضية".

aa9bba7d-4340-441c-ac4d-9cfd318ebce1.jpg
 

المصدر / فلسطين أون لاين