سارت أم الشهيد فاروق سلامة في ممر المستشفى تجول بناظريها بين السرائر بابتسامة تُخفي وراءها صدمة كبيرة، تنادي "وين العريس، الحمد لله يما.. الحور العين يا فاروق"، كلمات نزلت نارًا على قلب ابنها الذي يحتضنها، فتساقطت دمعاته رغمًا عنه، فنهرته "تعيطش يما".
خارج المستشفى وقفت "أم فاروق" الذي استشهد مطلع نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي في مخيم جنين، تنظر إلى من حولها من هول صدمتها تردد: "فاروق سنتين وبيرجع.. مستحيل فاروق ما مات.. تطولش يما يا حبيبي"، بعلو صوتها تنادي لعله يسمعها "يما يا فاروق البدلة كويتها"، تسكت برهة تضحك مذهولة، تعود: "والكندرة والله يما مسحتها.. والحلو يما والله عبيته بالسلال"، تمعن النظر بعيون المواسين "والله فاروق ست سنين وبده يجي، والله غير يجي".
تلك المشاهد المصورة انتشرت كالنار في الهشيم على منصات التواصل الاجتماعي، وسط تعبيرات عن عمق الصدمة التي تعرضت لها أم الشهيد فاروق، وهي التي كانت على بعد يومين فقط من زقه إلى عروسه.
فقد الأبناء فجأة أو بعد معاناة مريرة مع المرض، أمر لا يستطيع كل الآباء والأمهات تقبُّله بالدرجة نفسها، فمنهم من تصيبه صدمة نفسية وتخلط مشاعره، ومنهم من يتمالك نفسه، تقول الاختصاصية النفسية والاجتماعية إكرام السعايدة.
وتلفت السعايدة إلى أن الوالدين عند وفاة أحد أبنائهم يمران بمرحلة الإنكار وعدم التصديق، والمرحلة الثانية الغضب من مسببات الوفاة وفيها يبدآن بتوجيه اللوم لشخص أو عدة أفراد يرونهم متسببين بالوفاة، بعدها تبدأ مرحلة المساومة بترديد عبارات من قبيل: "لو أخدني مكانه، أو عاش مصابًا، أو لو مات بعد فرحه".
وتشير إلى المرحلة الأخيرة هي مرحلة تقبُّل حقيقة الفقد وتختلف من شخص لآخر فبعضهم قد يدخل في اكتئاب إذا لم يتجاوز المراحل السابقة.
المشاركة الوجدانية
وتنصح السعايدة الأهل عند تلقى نبأ الوفاة تقبُّل الخبر والرضا بالقضاء والقدر، والسيطرة على مشاعر الشعور بالذنب، وتوطيد الصلة بالله عز وجل والتقرب إليه بالعبادات والطاعات، والتمسك بالحياة لأنها بيد الله، والاستماع وتبادل الهموم مع آخرين واجهوا نفس التجربة.
وتحث الذين مروا بتجربة الفقد على المشاركة الوجدانية من الآخرين لأنها تساعد في التخلص من المشاعر السلبية، مؤكدة أهمية التعبير عن الانفعالات العاطفية بطريقة سليمة كالبكاء دون خجل، وقضاء أوقات أطول مع الأبناء الآخرين والاهتمام بهم، وعدم إهمال الحياة اليومية ومحاولة خلق روتين جديد.
وتثني السعايدة على المبادرات التي شاعت مؤخرًا في المجتمع الفلسطيني والتي قادتها أم الشهيد إبراهيم النابلسي بجمع أمهات الشهداء، ومؤازرة كل أم شهيد بزيارة بيتها ومشاركتها مصابها والتخفيف عنها.
وتشدد على أن الإنسان إذا رأى نفسه لم يستطِع تجاوز الأزمة بمفرده، عليه ألا يتردد في طلب المساعدة والدعم النفسي من الجهات المختصة.
باب الصبر
ومن جهته يبين الداعية مصطفى أبو توهة أن الحياة الدنيا كلها من بدايتها إلى آخرتها بنيت على الابتلاء "إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا"، والإنسان في هذه الدنيا وضعت حياته أيضا على سنة التمحيص والاختبار "إِنَّا خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ".
ويوضح أبو توهة لـ"فلسطين" أن فقد الأبناء أحد أوجه الابتلاء هذه، وهو ولا شك ابتلاء عظيم، كما ابتلي إبراهيم عليه السلام بذبح ولده فكان التعقيب على هذا الامتحان قوله تعالى "إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ"، مشيرًا إلى أن الإنسان لا يعرف بحكم قصوره وضعفه أين يكون الخير، بوجود الأبناء أم برحيلهم، "وهذا التصور يدخل في قلب المؤمن الرضا والتسليم بقضاء الله وقدره، فيما يعطي وفيما يأخذ منه، فلله ما أخذ وله ما أعطى".
ويقول أبو توهة: "لسنا أعمق عاطفة من رسولنا الله صل الله عليه وسلم، الذي قال حينما ودع ولده إبراهيم: إن القلب ليحزن، وإن العين لتدمع وإن على فراقك يا إبراهيم لمحزونون".
ويوضح أن حزن النبي "مشوب بالعوض جميل في الأجر الجزيل يوم القيامة، حيث سأل عليه الصلاة والسلام أصحابه: "ما تعُدُّونَ الرَّقوبَ فيكم؟، قالوا: الَّذي لا يولَدُ له، قال: ليس ذلك بالرَّقوبِ ولكنِ الَّذي لا يُقدِّمُ مِن ولدِه شيئًا".
ويذكر أبو توهة أن من مات له ولد صغير يأتي بين الناس جميعًا يوم العطش الأكبر، ويأخذ بيده ليدخل به من باب الصبر بغير حساب.
علامات الساعة
ومن جهته يلفت رئيس رابطة علماء فلسطين في رفح الشيخ عدنان حسان موت الأبناء فجأة سواء بمرض أو حادث أو فجأة سواء بعلة أو بدون علة، هو من علامات الساعة الصغرى، حيث روى أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "إن من أمارات الساعة أن يظهر موت الفجأة".
ويبين حسان لـ"فلسطين" أن السنة النبوية فيها عديد الأدلة على أجر الصبر على ابتلاء فقد الأبناء، فقد روى أبي موسى الأشعري، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا مات ولد العبد، قال الله لملائكته: قبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم، فيقول: قبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون: نعم، فيقول: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك، واسترجع، فيقول الله: ابنوا لعبدي بيتا في الجنة، وسموه بيت الحمد".
ويختم حسان بتأكيده أن ذلك لا يمنع حزن الوالدين ولكنه حزن دون جزع أو سخط على قضاء الله وقدره، "فالحزن والبكاء من طبيعة الإنسان".