يودع الفلسطينيون يوميًّا شهداء وتستقبل المستشفيات جرحى ويعتقل العشرات ويزج بهم في الزنازين والسجون ومراكز التحقيق، تزيد قائمة الشهداء المحتجزة جثامينهم وأرقام الأسرى ويسجل دخول عدد منهم عامهم الأربعين والثلاثين والعشرين، تتحرك جرافات وبلدوزرات قوات الاحتلال فجرا نحو قرية مخطرة بالإزالة ومنزل ممنوع أهله من سكنه ومحددة ومنجرة ومحل تجاري يحرم صاحبه من قوته ومزرعة ومنشأة تنهشها أنياب جرافة لمصلحة أمن مستوطن.
في كل يوم يدنس عشرات المستوطنين باحات المسجد الأقصى المبارك ويمنع مرابط من التواجد هناك، تنتشر حواجز الجنود وضباطهم وتسمع أصوات اللاسلكي والعبرية، تمنع حافلات الداخل من الاقتراب وحواجز الضفة موصدة في وجه الأهل من دخول القدس حتى أنها تمزق يوميا شرايين حياة كأنهم بجغرافيا وضعها يستهدفون معنوية يكسرونها ويحطمون حلم سيادة وغياب محتل.
وهناك في ساعات البرد القارص في الصباح تتحرك عشرات البوسطات فيها جنود مدججون وكلاب بوليسية وقوائم محاكم ونقل بين السجون وعزل وقمع لا تسمع فيها إلا صوت السلاسل والأصفاد وترى فيها عشرات من أحرار فلسطين بلباس بني موحد كتب عليه "شاباص".
في هذا الصباح؛ وبالتزامن ينتظر على بوابات ٢٣ سجنًا و٧ مراكز محاكم وتوقيف ينتظر مئات الآباء والأمهات والأطفال والزوجات والأخوة والأخوات في ظل تفتيش ومرور عبر بوابة تصدر أصوات التقاط المعادن ومجندة تفتش نعل الحذاء وجندي يصرخ في وجه كهل يسترق النظر بين أسلاك شائكة تحول بينه وبين إطار حديدي خلفه يضعون ابنه الأسير، بينهم من يرقب زيارة وآخر يرقب محكمة وغيرهم يريدون دفع غرامة أو حضور جلسة حكم.
وفي هذا الصباح ذاته تنتشر وحدات القمع الإسرائيلية للحياة العامة في القدس؛ تصدر مخالفة وتغرم منزلا وتخطر آخر وتمنع حياة، وهناك حيث غزة الأسيرة بسياج الحصار وآثار الدمار تبقى أصوات الطائرات "الزنانة" جزءا من صوت الطبيعة لدى أطفالها تختلط مع أذان الفجر وصوت الديك وعجلة الكارة التي يبحث صاحبها عن رزقه وصوت مركب صيد يدرك صاحبه أن العودة بعد ساعات ممكن أن تكون مستحيلة، فطراد الاحتلال السارق للبحر والغاز ونسيم الصباح يتربص حرية الصياد ليصطاده.
وفي الصباح ذاته واليوم ذاته تصطف طوابير عمال يطلبون رزق أولادهم على معابر الذل والقمع، فجنود بكامل راحتهم النفسية يجعلون من حياة عمال يملكون حتى تصاريح عمل على حاجز عسكري جحيمًا في كل يوم، ورحلة أخرى تبدأ هناك خلف الحاجز بدوريات القمع والتفتيش والمداهمة والتنكيل حتى يصل غروب الشمس مع عرق عامل وإرهاق نفسي وعائلة تخاف مصير رب أسرة قرر أن لا تجوع قهرا.
وفي الصباح ذاته تخترق وحدة خاصة نابلس وجنين وأخرى تلاحق مقاوما في الخليل وأصوات رصاص تستفيق عليه طفلة تجهز صندوق طعامها صباحا لتذهب لروضتها، فيستمر الرعب وتختلط أصوات الرصاص مع نشيد موطني في الإذاعة الصباحية.
وفي الصباح ذاته يتبدل مذيع النشرة حسب جدول الدوام ولكن الأثير والصورة ثوابت جنائز وصوت إسعاف وبكاء أم واقتحام وتدنيس وإحصاء لمشهد الجريمة، ويختم الخبر بمناشدة لتحرك دولي عاجل، وهذا التحرك ينتظره المذيع الذي ورث الخبر عن والده منذ ٧٤ عاما وما زال المشهد دوّارا.