فشلت قوات الاحتلال الصهيوني في تحقيق أهدافها المعلنة للحرب على قطاع غزة, وأبرز تلك الأهداف القضاء على المقاومة والتخلص من أنفاقها الهجومية, توقفت المعركة الميدانية والمواجهة المباشرة بالرصاص والصواريخ والقذائف, وبدأت معركة من نوع آخر, ذات بعد أمني واستخباري ميدانها التفاوض غير المباشر مع المقاومة الفلسطينية, بعد أن وقع عدد من الجنود الصهاينة خلال الحرب في الأسر لدى المقاومة الفلسطينية.
خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة برع إعلام المقاومة في إظهار ضعف قيادة الاحتلال في التعاطي مع مسألة الجنود الأسرى بغزة, بعد أن أسقطت المقاومة الرواية الصهيونية الرسمية لما جرى مع الجنديين الأسيرين هدار جولدين وأوري أرون, وفتحت بذلك باب الجدل واسعًا في كيان الاحتلال الصهيوني, وانصبت الاتهامات على قيادة الاحتلال بالتفريط بالجنود, وتركهم في قطاع غزة بيد المقاومة دون عمل أي شيء يضمن عودتهم إلى ذويهم.
مما لاشك فيه أن قضية الجنود الأسرى تحظى باهتمام كبير من الفلسطينيين, لارتباطها بملف تحرير الأسرى من سجون الاحتلال, وخاصة أصحاب المؤبدات والأحكام العالية, لذا تحرص المقاومة الفلسطينية كل الحرص على إدارة هذا الملف بتروي وعدم استعجال، من أجل تحقيق أكبر قدر من المكاسب, في مسألة تحرير الأسرى من زنازين الاحتلال الصهيوني, وثقة الشعب الفلسطيني وأسراه في المقاومة عالية, حيث الشعور بالاطمئنان بأن الفرح والفرج قادمان بإذن الله, وأن حرية الأسرى مسألة وقت, والأمر يحتاج إلى صبر وحكمة في إدارة المعركة التفاوضية مع الاحتلال.
دارت تلك المعركة الأمنية التفاوضية العنيدة بين المقاومة الفلسطينية وكيان الاحتلال, إذ حجبت المقاومة أي معلومات عن مصير الجنود الأسرى, بشرط إطلاق سراح الأسرى المحررين في صفقة وفاء الأحرار, الذين اعتقلوا في مخالفة صريحة لاتفاقية الصفقة, وأعلنت المقاومة أن لا حديث أو حوار بخصوص الجنود الأسرى إلا بالإفراج عمن اعتقوا من محرري صفقة وفاء الأحرار جميعًا، ويقدر عددهم بـ(200) أسير, لكن المفاوضات _على ما يبدو_ تعثرت لعدم جاهزية حكومة الاحتلال لدفع الثمن المطلوب، وسط تهديدات بانحلال عقد الائتلاف الحكومي اليميني الحاكم, إذ يشترط حزب نفتالي بينت "البيت اليهودي" أن تكون أي صفقة وفقًا لمعايير لجنة شمغار (جندي مقابل أسير ولا تبادل أحياء مقابل جثث)، تلك اللجنة عينها وزير الحرب السابق أيهود باراك، برئاسة رئيس المحكمة العليا الأسبق مائير شمغار, وتعالت أصوات وزراء (كابينت) رفضًا لإجراء الصفقة, هذا الجو من التصريحات العنترية التي ترفض عقد صفقة تبادل للأسرى له خلفيات وأبعاد انتخابية وتنافس حزبي, ومن باب فرض عضلات على رئيس الحكومة الصهيونية نتانياهو المهزوم نفسيًّا, وقد أصابته لعنة شاليط وتلاحقه قضايا الفساد, ويخشى انهيار حكومته والخروج من المشهد السياسي الصهيوني.
هذه الحالة من عدم قدرة المستوى السياسي الصهيوني على إدارة ملف الجنود الأسرى, حيث يسود التخبط داخل حكومة نتانياهو, وتتضارب تصريحاتها ما بين حرصها على عودة الجنود, ورفضها دفع ثمن ذلك؛ هذه الضبابية عجلت استقالة الجنرال ليئور لوتان مسؤول ملف الجنود المفقودين المكلف من حكومة الاحتلال, إذ اصطدمت جهوده ومحاولاته باللاءات المعلنة من السياسيين في حكومة نتانياهو, وعدم قدرته على التفاوض لتنفيذ الشرط المبدئي للمقاومة بالإفراج عن أسرى صفقة شاليط قبل الحديث والتفاوض في ملف الجنود الأسرى بغزة, لكن استقالته أعادت ملف الجنود الصهاينة الأسرى في غزة إلى واجهة الأحداث في كيان الاحتلال, حيث أعلن وزير الحرب الصهيوني ليبرمان بأنه لن يسمح بصفقة شاليط ثانية في عهده, في المقابل ردت عليه والدة الجندي شاؤول مستهزئة: "المجد لدولة (إسرائيل) التي يشجع وزير جيشها التخلي عن جنود الجيش", وقد وصفت ليبرمان بأنه لا يجيد سوى الكلام لا الأفعال, وأيضًا جاء الرد من داخل حكومة الاحتلال، فصرح وزير الإسكان يوآف غالانت بعدم موافقته على تصريحات ليبرمان، قائلًا: "هذا كلام لن يصمد على أرض الواقع".
استطاعت المقاومة أن تلقي الكرة في الملعب الصهيوني, وها هي كرة الجنود الأسرى يتقاذفها فيما بينهم الوزراء الصهاينة وعائلات هؤلاء الجنود, التي تطالب بتعيين منسق جديد بدل ليئور لوتان لإدارة ملف المفقودين والتفاوض مع المقاومة, ودعت لتغيير معادلة التعامل مع حماس والضغط عليها للتوصل إلى اتفاق, مع مطالبتها بإجراءات عقابية إلى حين عودة الجنود الأسرى, كل هذه التصريحات تكشف أن المسار المفضل لعوائل الجنود الأسرى هو التفاوض وإنجاز اتفاق يؤدي إلى عودة الجنود, وهذا الرأي العام يخالف الرأي الغالب في حكومة نتانياهو, فهل تساهم قضية الجنود الأسرى وعدم مبالاة الحكومة بمصيرهم في سقوط حكومة نتانياهو؟
يتضح من المشهد الصهيوني أن المقاومة تتشبث بشرطها الأول, ولا تستعجل إجراء صفقة تبادل جديدة, إلا بعد معالجة الخرق الصهيوني لاتفاقية التبادل (وفاء الأحرار) التي أبرمت برعاية مصرية, والمقاومة كما أعلنت لن تعطي أي معلومة عن أسرى الاحتلال إلا مقابل ثمن تحدده هي, وبذلك تفرض المقاومة شروطها من موقف القوة التي تمتلكها في صندوقها الأسود, ولن يطول الوقت حتى يأتي الاحتلال صاغرًا, ويرضخ لمطالب المقاومة وينفذ شروطها.