الحرب جحيم على الأرض، حتى إذا كانت حربا صغيرة، فهي في نظر المحاصرين فيها جحيم. هكذا استهلّ المؤرخ الأميركي نيال فيرغسون مقاله بالموقع الإلكتروني لوكالة "بلومبيرغ" (Bloomberg) الأميركية.
ويقتبس من مقال نُشر الشهر الماضي لوزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر أنه في عام 1914 "شرعت دول أوروبا التي لم تكن على دراية كافية بكيفية تعزيز التكنولوجيا لقواتها العسكرية في إلحاق دمار غير مسبوق ببعضها".
ثم بعد ذلك بعامين من المجازر "بدأ المقاتلون الرئيسيون في الغرب (بريطانيا وفرنسا وألمانيا) في استكشاف آفاق إنهاء المذبحة"، إلا أنهم فشلوا في ذلك حتى مع الوساطة الأميركية.
وطرح كيسنجر في مقاله سؤالا مهما هو: "هل يجد العالم نفسه اليوم عند نقطة تحول مماثلة (عندما حانت فرصة للسلام في عام 1916) في أوكرانيا حيث يفرض الشتاء هدنة على العمليات العسكرية الواسعة النطاق هناك؟".
يشير كيسنجر -الذي شغل أيضا منصب مستشار الأمن القومي في عهد الرئيسين ريتشارد نيكسون وجيرالد فورد- إلى أن هناك قوتين نوويتين تتنافسان حاليا على مصير أوكرانيا، إحداهما روسيا المنخرطة مباشرة في حرب تقليدية، والأخرى الولايات المتحدة وحلفاؤها الذين يقاتلون بشكل غير مباشر من خلال تزويد أوكرانيا بأنظمة حرب خوارزمية متقدمة.
لقد عادت الحرب الباردة مجددا، فهل يمكن أن تعود الحرب العالمية أيضا؟ يجيب فيرغسون -الذي يعمل حاليا باحثا في معهد هوفر- بالقول "إذا وقع ذلك، فسيؤثر على حياة البشر كلهم".
ولأن الحروب التي اندلعت في الفترة ما بين عامي 1991-2019 كانت صغيرة الحجم (مثلما حدث في البوسنة، وأفغانستان، والعراق)، فقد نسينا أن الحرب هي المحرك المفضل في التاريخ للتضخم، والتخلف عن سداد الديون، وحتى المجاعات.
قوة الجيوش
وعبر التاريخ، كان المصدر الرئيس للقوة هو التفوق التكنولوجي في مجال التسلح، بما في ذلك الذكاء الاصطناعي والاتصالات.
فما المدخلات الرئيسة التي من دونها لا يمكن الوصول إلى جيش متطور؟ يتساءل فيرغسون، ثم يتكفل بالإجابة قائلا إن الفحم والحديد والقدرة التصنيعية على الإنتاج الضخم للمدفعية والقذائف، فضلا عن السفن البخارية، كانت هي المدخلات الرئيسة في الحرب العالمية الأولى. وفي عام 1939، كانت هي النفط والصلب والألمنيوم والقدرة التصنيعية لإنتاج المدفعية والسفن والغواصات والطائرات والدبابات بكميات كبيرة.
وبعد عام 1945، كانت كل ما سبق، بالإضافة إلى القدرة العلمية والتقنية لإنتاج الأسلحة النووية.
واليوم -يتابع المؤرخ والباحث الأميركي- فإن المدخلات الحيوية لصناعة جيش متطور تكمن في القدرة على إنتاج كميات كبيرة من أشباه الموصلات والأقمار الصناعية وأنظمة الحرب الخوارزمية التي تعتمد عليها.
الردع
ولما كانت الولايات المتحدة هي الإمبراطورية الناطقة بالإنجليزية المهيمنة منذ أزمة السويس عام 1956، فقد نجحت في ردع الاتحاد السوفياتي عن نشر الفكر الماركسي اللينيني في أوروبا.
لكن فيرغسون يستطرد قائلا إن أميركا لم توفق -بالمقارنة مع غيرها- في منع انتشار الشيوعية من قبل المنظمات والأنظمة المدعومة من السوفيات في العالم الثالث.
ويضيف أن أميركا لا تزال فاشلة في مجال الردع، إذ أخفقت في العام الماضي في ثني الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن غزو أوكرانيا، ويرجع ذلك أساسا إلى ضعف ثقتها بقوات الدفاع الأوكرانية التي دربتها وبحكومة كييف التي كانت تسيطر عليها.
أما هدف الردع الأميركي الجديد فهو تايوان التي تعد دولة ديمقراطية مستقلة وظيفيا تدّعي الصين أنها ملك لها، على حد تعبيره.
ورغم أن روسيا، وفقا للكاتب، تشكل تهديدا مباشرا للنظام الدولي الحر والمفتوح، وتنتهك بتهور القوانين الأساسية للنظام الدولي اليوم، كما أظهرت حربها ضد أوكرانيا، فإن الصين هي "المنافس الوحيد الذي لديه نية لإعادة تشكيل النظام الدولي، وبشكل متزايد القوة الاقتصادية والدبلوماسية والعسكرية والتكنولوجية لتحقيق هذا الهدف".
التحالفات وأثرها
وحسب مقال بلومبيرغ، فإن ما يتعين على واشنطن فعله لكبح روسيا والصين يتمثل في تكوين تحالفات والحفاظ عليها ومحاولة منع الطرف الآخر من اللحاق بالركب التكنولوجي؛ "هذه استراتيجية حرب باردة في كل شيء ما عدا الاسم"، كما يلخصها فيرغسون.
ومما لا شك فيه أن الدعم الأميركي منذ الغزو الأوكراني في 24 فبراير/شباط نجح -وفق اعتقاد الكاتب- في إضعاف نظام بوتين، وعانى الجيش الروسي من خسائر فادحة في القوى العاملة والمعدات المدربة.
وربما لم ينكمش الاقتصاد الروسي بالقدر الذي كانت تأمله واشنطن، إلا أن الواردات الروسية انهارت بسبب ضوابط التصدير الغربية. ويتوقع فيرغسون أن تواجه الصناعة الروسية اضطرابات عميقة، بما في ذلك في قطاعي الدفاع والطاقة.
لقد تمخضت حرب بوتين في محصلتها النهائية حتى الآن في جعل روسيا أشبه ما تكون بـ"ذيل اقتصادي" تابع للصين التي تعد أكبر شريك تجاري لها.
مشكلتان
ومع ذلك، هناك مشكلتان واضحتان في إستراتيجية الولايات المتحدة، حسب كاتب المقال. الأولى أنه إذا كانت أنظمة الأسلحة الخوارزمية مكافئة للأسلحة النووية التكتيكية، فقد يدفع بوتين في النهاية إلى استخدام السلاح النووي، لأنه يفتقر بوضوح إلى الخيار الأول (الأسلحة الخوارزمية).
والمشكلة الثانية أن إدارة الرئيس جو بايدن تركت -على ما يبدو- أمر تحديد موعد لإجراء أي مفاوضات لكييف.
ويرى المؤرخ الأميركي أن الحرب تبدو متجهة نحو الاستمرار إلى أن تصل إلى طريق مسدود، ويموت بوتين، ويتم الاتفاق على هدنة ترسم حدودا جديدة بين أوكرانيا وروسيا.
ويصف الصين بأنها "صعبة المراس" أكثر من روسيا، لذا فإن النهج المفضل للتعامل معها هو إعاقة نموها التكنولوجي، لا سيما فيما يرتبط بالتقنيات المتعلقة بالحوسبة، ومن ذلك الإلكترونيات الدقيقة ونظم المعلومات الكمية والذكاء الاصطناعي والتقنيات الحيوية والتصنيع الحيوي.
وقد أثبتت تجربة الحرب الباردة الأولى أن مثل هذه الأساليب يمكن أن تنجح.
ويختم الكاتب مقاله زاعما أن الغزو الروسي لأوكرانيا يمضي كما يشتهي الغرب في الوقت الحالي، لكنه يمكن أن يكون نذير حرب أوسع بكثير في أسوأ الاحتمالات.