الساعة الثانية عشرة عند منتصف الليل، اقتحم الخوف قلب والدة الفتى آدم عياد (15 عامًا) ترفض إسدال ستار النوم على جفنيها قبل أن تطمئن بقدوم ابنها الوحيد لأنه بالعادة يعود من عمله في "فرن خبز" الحادية عشرة ليلًا، لكن مخاوفها بددتها طرقات ابنها، وابتسامته لها من "رضا صاحب العمل عنه".
مكث الفتى قليلًا عند أمه، قبل مغادرة المنزل متوجهًا لبيت والده المنفصل عن والدته لكي يتجهز للذهاب للفرن فجرًا لأن لديه دوامًا صباحيًا أمس، فأخبرها أنه ادخر نقودًا وحدد لها مكانها، ووضعها تحت تصرفها إن احتاجت إلى أي شيء في غيابه الذي لن يطول.
"بدك اشي مني؟" سأل الفتى والدته قبل مغادرته المنزل، فطلبت منه عدم التأخر عليها في اليوم التالي بعد عودته من العمل لكي يجتمعان على مائدة غداء واحدة بالطعام الذي طلبه.
تزامن توجُّه الفتى فجر أمس إلى عمله في "فرن الخبز" مع اقتحام قوات الاحتلال مخيم الدهيشة بمدينة بيت لحم، هذه المرة لم يسلم من رصاصات الجنود التي اخترقت كتفه.
الخامسة فجرًا، رن هاتف خاله محمود عياد الذي وصل إليه الخبر، على الطرف الآخر من الهاتف كان الخوف يسيطر على صوت والدة الفتى، وهي تطلب منه إخبارها بالحقيقة ولا شيء غيرها، فخفف من ثقل الكلمات على قلبها معترفًا لها بإصابته.
لم تمر دقائق طويلة حتى وصلت الأم إلى المشفى، وكان الأطباء يحاولون لعدة دقائق إسعاف شهقاته الأخيرة، فوقفت على باب غرفة العمليات تشعر بأن الفقد يقترب منها أكثر من الأمل.
مرت الدقائق بطيئة على أنفاسها المضطربة وارتجافة أطرافها تميل على كتف شقيقها لكي يحمل شيئًا من هواجس رحيل أرهقت تفكيرها في لحظة تصارع فيها الموت والحياة، إلى أن خرج الطبيب ينزع قفازتيه ويطلب منهم الصبر "واحتساب الأجر".
تكرر المشهد كما يودع الشهداء، علت صيحات التكبير والتف الجميع حول سرير غرق بدماء الفتى، وبدأت مراسم التشييع والوداع، تقف أمه في زاوية الغرفة ترسم عيناها خطًا من الدموع تقف بصدمة أمام مراسم لم تتهيأ لها، ثم وقفت أمام جسده الساكن بلا حركة مسجى بدمائه.
وصية الفتى
في وصية انتشرت للفتى ذيّل عليها توقيعه بـ"الشهيد الحي، آدم عياد" عبّر فيها عن كل شيء كان يتمناه فقال: "أنا كان نفسي أشياء كثير أعملها بس إحنا ببلد مستحيل تحقق حلمك فيها".
وإن لم يستطع الفتى تحقيق تلك الأحلام وكانت في غالبيتها كالتي يتمناها أي طفل بلم شمل أسرته وإكمال تعليمه وإيجاد واقع معيشي أفضل، فهو سعيدٌ أن المولى حقق له أحدها: "أنا مبسوط كثير إنو ربنا حققلي حلم من أحلامي وهو الشهادة".
لم تكن الشهادة في نظر الطفل كما ورد في وصيته أنها "مجرد موت" فكلماته عبّرت عن إيمان عميق يسكن قلبه وفكره فقال: "الشهادة فخر لنفسك وللعالم، وانتصار".
وكان واضحًا تأثر الفتى عياد بالشهيد إبراهيم النابلسي بأنه يتمنى من الناس الاستيقاظ فكرر نفس الوصية، لكنه ترك وصية خاصة به مخاطبًا شعبه: "حددوا بوصلتكم ووجهوها صوب الاحتلال".
في ختام وصيته المؤثرة، طلب من والدته أن تسامحه، التي غابت فيها كلمات الوداع: "ما بدي أقلكم مع السلامة، بدي أقول لكم لنا لقاء بالجنة".
لم تتفاجأ والدته التي عثرت على وصيته المكتوبة في ورقة بملابس ابنها قبل مدة ومزقتها، ودار بينهما حوار تروي تفاصيله وهي تذرف دموعًا يعتصرها الألم: "كان يقول لي دائمًا: أريد الشهادة، فكنت أذكره بحاله: أنت وحيد أمك، لكنه يجد ما يبرر تمسكه بطريقه: في كتير شباب وحيدين أمهاتهم، سألته يومها: يعني بدك تحرر فلسطين؟، فجدد أمنيته التي كررها كثيرا: بدي أستشهد".
تعلق بحسرة: "أخذت الورقة ومزقتها، وطلبت منه عدم كتابة وصية مرة أخرى وقلت له: "مليش غيرك" ومن بعدها بدأ يخفي عني أي شيء يحدث معه خوفًا من حزني، ولم أدرك أنه كتب وصيةً أخرى".
المناضل الصغير
كان جرح قلبها الذي يسكنه الفقد أقوى من إدلاء الأم بكلمات إضافية عما قالته، لكن خاله محمود روى آخر لحظات الفتى، الذي غادر منزل والده الساعة الرابعة والنصف فجرًا متجهًا نحو "فرن الخبز" وفي الطريق قابلته قوات الاحتلال التي أنهت أحلامًا بريئة، فأصابته رصاصة أسفل كتفه الأيمن، وهو بالعادة يخرج بهذا التوقيت إلى عمله نظرًا لوجود ظروف اجتماعية واقتصادية يحاول الفتى مشاركة والديه في تخفيفها.
يطل خاله في حديثه لصحيفة "فلسطين" على شخصية الطفل، التي اتسمت بـ"المرح وحرصه على خدمة الجميع في المخيم إذ كان يوزع بعض ربطات الخبز على العائلات الفقيرة".
منذ أن بلغ العاشرة من عمره، كبرت الروح النضالية داخل الطفل، وترعرع على مراسم تشييع شهداء المخيم، وأصوات التكبيرات التي لا يذكر خاله أنه تخلف يومًا عن المشاركة فيها، فكان مناضلًا منذ "نعومة أظافره وحمل هم الوطن مبكرًا".
يزيح الستار عن أحلام الفتى التي كان يتمنى أن تتحقق، وهي لا تعدو عن سعيه إعادة لم شمل والديه المنفصلين منذ سبعة أعوام، وترميم العلاقة التي هدمها الانفصال، يعتصر صوته بالحزن: "آدم كأي طفل أحب والديه، تمنى أن يعيش في كنف أسرة، وإكمال دراسته ثم الزواج".
كان خاله شاهدًا على علاقة ترابط بين الأم وابنها تفوق كل حدود الشوق والتعلق: "كان سندها في الحياة، تنتظر أن يحملها عندما يكبر وترى أحفادها منه كونه الابن الوحيد".
من زقاق المخيم الضيقة التي تحمل جدرانها عبق العودة وكان شاهدًا على معاناة اللاجئين الفلسطينيين لم يجد مساحة للعب فكبر على أصوات الاقتحامات والشهداء وحرم من طفولته، حمل المشيعون جثمان الفتى وشاركوا والده في مواراته تحت الثرى، وسارت والدته بين المشيعين أيضًا، وبكته أزقة "الدهيشة".