- مُشرّدون ونازحون ومُشتَّتون وجدوا "يدًا حانية" تربت على أكتافهم
قادها قطار العمر إلى محطّة الـ60 عامًا، لكن روحها الشابّة وبريق عينيها يتحديان الشيب الذي تسلل إليها، وفي نظراتها شريطُ ذكرياتِ حزنٍ وفرحٍ لآلافٍ مدّت إليهم "قشة" التقطوها لينجوا من الغرق في وحل الحصارِ والاحتلالِ الطويلِ، ولسان حالها وحالهم ما قاله الشاعر محمود درويش يومًا: "وبي أملٌ يأتي ويذهب لكن لن أودعه".
آمال، ابنة اللاجئ الفلسطيني أحمد العويني، مؤسس مكتب اللجنة الدولية للصليب الأحمر في رفح جنوب قطاع غزة، استبدلت الزواج التقليدي الذي تحلم به أي امرأة، بـ"الزواج" من العمل الإنساني منذ أربعة عقود وتخطّت واقعها الصعب في بلدها المحتل، لـ"تُنجِب" الأملَ للمتعبين والمنهكين من المعتقلين في سجون الاحتلال وذويهم، والمزارعين المُهدَّدين وغيرهم، وتكون كطبيبة تعاني من الداء وتقدم "لمرضاها" الدواء.
لا يزال صوتُ نجاة الأغا –وهي واحدة من 4850 أم معتقل في سجون الاحتلال- يتردد في أُذني آمال منذ ثلاثة عقود، وهو يئنُّ تارةً لزيارة ابنها ضياء، وأخرى للاطمئنان عليه، تماما كما نبرةُ الخمسينية وجدان أبو طير، مع اختلاف معاناتها، حيث تكافح منذ عقود لزراعة أرضها، وغيرهما من المُعذَّبين الغزيين.
"آمال تقف معنا وتخدمنا وتتصل بنا، أحترمها وأقدّرها"، بهذه الكلمات تردّ أم ضياء "الجميل" لآمال.
احتل العذاب قلب نجاة، الممنوعة منذ ثلاث سنوات من زيارة ضياء، المحكوم بالسجن مدى الحياة.
"تخيّل أن ضياء اعتُقِل في سن 16 عامًا، في حين يبلغ اليوم 46 عامًا في سجن نفحة الإسرائيلي"، تضيف أمه، التي تعكس تجاعيد وجهها قهر الانتظار الطويل.
وللسبعينية نجاة –المنحدرة من خان يونس- ابنتان وستة أولاد، منهم محمود الذي كان أبوه في السجن حين أنجبته عام 1973، كما أن ابنها عزام حُكِم عام 1990 بأربع سنوات، وابنها محمد بـ12 سنة.
وتوفي زوجها في أثناء وجود محمد وضياء في السجن، لتتلقى "ضربة قاسية".
ترسم آمال ذات البشرة المغمورة بلون قمح فلسطين على وجهها ابتسامة تعكس "عشرة العمر" بينهما ولكلِّ ذلك ترى أن لحالة أم ضياء "خصوصية"، مشيرةً إلى نجاحها عبر "الصليب الأحمر" في مرات عدة بالتنسيق للأم المكلومة لزيارة ابنيها ضياء المعتقل الحالي، ومحمد، الذي أُفِرج عنه.
أما أم ضياء فيتسلل إلى صوتها اليائس شيء من الأمل كلما ذكرت مساعي آمال: "تساعدني على زيارة ابني (كلما تمكنت من ذلك) والاطمئنان عليه".
وفي حزيران/يونيو 2007 عقب الانتخابات التشريعية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، فرضت (إسرائيل) حصارا بريا وبحريا وجويا على غزة، حسبما يقول مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية "أوتشا" التابع للأمم المتحدة.
ومنذ بداية عمل آمال مع الصليب الأحمر عام 1982، كانت مهمتها الأساسية مع أمهات المعتقلين لدى الاحتلال، وأول خبر كان يصل لأم المعتقل عبر اللجنة الدولية، تقول لها آمال: ابنك بخير، فترد: معقول! هل تحدثتم معه؟
"أنت عبر التليفون تلمس الابتسامة وتحس بهذه الأم"، تروي آمال الحكاية.
وتدرّجت العلاقات بين آمال والأمهات لدرجة أنهن يأتين إلى مكتبها. ورغم مرور السنين لا تزال هذه العلاقات قائمة، وتذكر منهن "أم جبر وشاح، أم رامي عنبر، أم ضياء، وغيرهن ممن عانين طويلا ولجأن إلى الصليب، وشعرن أنه بيتهن الثاني الذي سيعيد لهن أبناءهن".
أما وجدان أبو طير فتفترش الأرض وتلتحف السماء في أثناء وجودها في أرضها الزراعية التي تستأجرها في بلدة عبسان الكبيرة منذ 20 عاما ولا تبعد سوى 800 متر عن السياج الفاصل شرقي قطاع غزة.
تعرّضت وجدان ومزارعون آخرون –كما تقول- لإطلاق نار خلال اجتياحات نفذتها قوات الاحتلال عامي 2006 و2008 بالدبابات والجرافات، ولإطلاق القذائف الإسرائيلية قرب بيتها في الحروب، وسبق أن اعتُقل زوجها في 2008.
ويبرز دور آمال في تمكين وجدان والمزارعين في تلك المناطق من الوصول إلى أراضيهم لغرس البذور.
"الله يعطيهم العافية (آمال ومساعدوها)، يخدموننا ويلبون الطلبات سريعا، وسنويا يقدمون مشروعا نقديا لمزارعي المناطق الحدودية، وبذورا، وترميم حمامات الزراعة، وغيرها"، تقول وجدان (53 عاما)، التي تحمل أوتار صوتها تعب السنين.
وتصف معاملة آمال لها وللمزارعين بأنها "كالأم، إنها حنون جدا، ودائما في خدمة الإنسانية".
يشاركها سلامة مهنا الذي يملك أرضا حدودية في بلدة القرارة جنوب القطاع، حكاية المعاناة، والأمل أيضًا، قائلا: "لولا الصليب الأحمر لما تمكنّا من زراعة أراضينا".
وبنبرة حانية تقول آمال: "أنا تزوجت العمل، أخذ كل حياتي، وعندما أشارك في ورش عمل أقول: (المعتقلين) هم أولادي، المتعبون هم أولادي، المزارعون هم أولادي، والمجتمع كله أشعر أنه ابني".
في سن السابعة.. كانت البداية
بعد عشرات الأعوام من العمل الإنساني، الميداني والإداري، تسند آمال ظهرها دون انحناء على كرسيها في مكتبها، مستعيدةً أحداث حياتها كما لو أنها وقعت للتو.
ترعرت آمال -التي ترتدي بطاقة عملها في الصليب الأحمر- في أزقة مخيم خان يونس ودرست الابتدائية والإعدادية والثانوية، ثم السكرتاريا وأكملت البكالوريوس في الخدمة الاجتماعية.
أبصرت السيدة الستينية النور على العمل الإنساني، حيث عمل والدها مع قوات الطوارئ الدولية حينما كانت تبلغ سبعة أعوام، إبان حرب 1967، واعتُقِل كأسير حرب لـ40 يوما في سجن عتليت، وأول الأخبار المبشرة التي سمعتها وصل من الصليب الأحمر. كان بصيص أمل في أن أباها لا يزال حيا.
ولما أُفْرِج عنه اختير ليكون من المرشحين لتأسيس مكتب الصليب الأحمر في المنطقة الجنوبية: منطقة رفح وشمال سيناء.
انعكس واقع آمال عليها، وهو ما تفسره بعد تنهيدة: "أن تكون الفلسطينية لاجئة يعني أنها محرومة من أمور كثيرة ولتكون فردا ناجحا في المجتمع لابد من أن تتوفر العزيمة والإصرار وأن تقرأ وتثابر ويُحبِّك الناس وتخطو الخطوات التي تبدو صعبة".
وآمال أول امرأة في مخيمها تنال رخصة سياقة عام 1983.
العمل الإنساني هو الحكاية التي رواها والدها كلما عاد من عمله، عن المعتقلين لدى الإسرائيليين، والنازحين من بيوتهم، والطلبة الذين لم يكن بإمكانهم الذهاب إلى جامعاتهم.
عملت آمال 14 عاما في مكتب غزة وتدرجت من قسم لآخر وعام 1996 اختيرت لإدارة مكتب خان يونس، وهي أول فلسطينية تتبوأ هذا المنصب في الأراضي المحتلة.
من اللحظات "الحلوة" –كما تصفها- خروج المعتقلين عام 1985 في عملية تبادل، حيث العناق الشديد والبكاء والفرح والابتسامة.
ومن محطات إحيائها الأمل، مرافقة بعض ذوي المعتقلين إلى سجن نفحة في رحلة طويلة، وهناك "تنظر لابنك دون أن تتمكن من ملامسته بسبب وجود حاجز، لحظات حزن لمقابلة الحبيب من وراء القضبان، وفرح بالوصول إليه بعد كل التعب والمشقة"، حيث استعادت آنذاك شعورها تجاه والدها.
بعد 2005 توسعت المشاريع الإنسانية في القطاع في ظل الحصار والإغلاق والواقع الاقتصادي، لتشمل قسم الأمن الاقتصادي، الذي يُقدم مساعدة طارئة مَن يفقد بيته أو تُجرف أرضه الزراعية.
"عندما يفقد إنسان بيته، يفقد ذاكرته وطفولته وكل شيء بناه، هذا مؤلم، ومع ذلك يقابلنا الناس بفرحة كبيرة لأننا لم ننسهم".
ولا يتوقف كفاحُ آمال لزرع الأمل عند هذا الحد، إذ تقول وكأنها تتنفس الهواء العليل في بحر غزة: "أحب فئة الصيادين وأن أبقى على تواصل معهم".
وبعد شهيق وزفير تستعيد آمال حكاية وجه آخر للعمل الإنساني: "كان ثلاثة أطفال بصحبة أمهم في الضفة الغربية ووالدهم في رفح، والأبوان منفصلان، عملنا على جمع الأطفال بأبيهم. "كان لقاء مفرحا محزنا، حيث والداهم في مكانين مختلفين".
وتنسج خيوط ذاكرتها، مشيرة إلى أن رجلا كبيرا في خان يونس توفي أولاده وبناته وبقي وحيدا لا معيل له، عملت على لم شمله بأقربائه.
بهمّة أكبر، تتابع وعيناها ترقبان لوحةً من الصور التي توثق سيرتها: "وضعت سيدة من خان يونس ثلاثة مواليد عام 2019 في الضفة الغربية وعادت إلى غزة بينما بقوا هم لتلقي الرعاية، فأحضرناهم لها ورافقتُهم إلى البيت. تصور الفرحة بعد 20 عاما لم تنجب فيها".
لكن التحديات تفرضُ نفسها في أحيان كثيرة، ومنها ما عاشته آمال في 2005: "هُدِم بيت في المحافظة الوسطى وقدَّمت لأصحابه المساعدات بنفسي في يوم جمعة (إجازتي الأسبوعية)، وبعدما سلمتهم الأغراض وسعدوا بها، فوجئت بأن الطريق أُغلق (حاجز أبو هولي)، بكيت لساعات".
وحاجز أبو هولي كانت تقيمه سلطات الاحتلال قبل انسحابها من قطاع غزة، جنوب دير البلح للفصل بينها وبين مدينة خان يونس.
وتسدل الستار على فصول المعاناة حينها: "لم أجد من يأويني في بيته، أين أذهب في يوم جمعة يجلس الناس فيه ببيوتهم؟... نمت في جمعية الهلال الأحمر في دير البلح ليوم السبت".
واعترت آمال مخاوف غير مسبوقة في الحرب العدوانية على القطاع في مايو/أيار 2021 التي استمرت 11 يوما. "لم أخف مثلما خفت في مايو (...) قدمنا المساعدات بعدما انتهت الحرب، لمن هُدمت بيوتهم، وللمزارعين، ومن فقدوا مصدر رزقهم".
"ضوء أمل"
ماذا يعني لك العمل الإنساني؟ تجيب بثقة: "أن يكون الشخص المقابل لك مبتسم العينين، مرتاح النفس، أنك عملت شيئا بدون مقابل، وتخيلت نفسك مكانه، وكيف سيكون شعورك (...) طالما لديك ضوء أمل بأن غدا أفضل وأنك تعطي ما يمكنك، لا شيء يوقفك عن العمل الإنساني".
وتحجم آمال عن الزواج، معللة ذلك بأن من "الصعب أن تربط حياتك العملية بالشخصية، لكنني لست نادمة".
وكأن التضحية وزراعة الأمل كُتِبت عليها منذ نعومة أظفارها. بعينين دامعتين تقول: "توفيت أمي عام 1997وبقيت بجانب أبي لأرعاه، إلى أن تركني هو وتوفي في 2011".
ويجري العمل الإنساني في آمال كالدم في العروق. "أي شخص يتصل بي يجدني في أي وقت. في 2014 نمت في المكتب أسبوعين أثناء الحرب ولم أكن أرى أهلي".
وفي حين تتذكر وصايا والدها لها: "حبي نفسك ليحبك الناس، واعملي دائما الخير ولا تتحدثي عنه"، تتعهد بأنها ستمارس العمل الإنساني وتغرس الأمل ما دامت حية.
وتؤمن آمال أن "العمل الإنساني ما دام موجودا يجب أن نحتفظ بالأمل، فإذا فقدنا الأمل فقدنا كل شيء، والابتسامة هي الأمل الذي يقودك إلى النجاح".