فلسطين أون لاين

رصاصة إسرائيلية بددت حلمه باحتراف كرة القدم

تقرير أحمد دراغمة.. سجل هدفه الأخير بالدم وظفر بـ"كأس الحرية"

...
صورة أرشيفية
غزة/ يحيى اليعقوبي:

تمسك بحلم اللعب لمنتخب وطنه لكرم القدم حتى آخر لحظاته، ولاحتراف اللعبة عالميًّا مستقبلًا، وفي الطريق؛ وقف الاحتلال الإسرائيلي أمام حلمه، فحُرم من كأس الكرة، لكنه ظفر بـ"كأس الحرية" والانعتاق من المحتل.

بعث أحمد دراغمة (23 عامًا) رسالة عبر تطبيق "ماسنجر" لزميله وكابتن فريق ثقافي طولكرم عبد الكريم أبو شنب (25 عامًا)، يبلغه بأنه ينوي القدوم لتوديع أربعة لاعبين من الفريق قبل سفرهم، عقب التحاقهم بالمنتخب الفلسطيني لكرة القدم الخماسية "الصالات".

اقرأ أيضاً: حالة من الحزن تعم الشارع الرياضي على استشهاد دراغمة

في الرسالة ذاتها، أخبر أحمد صديقه أنه سيحضر المباراة الودية التي ستجمع بين فريقه ضد "نادي بلاطة" التي كانت مقررة الخميس الماضي، لكن من المدرجات؛ لأنه لم يتعافَ بشكل كامل من إصابة الملاعب.

صباح أول من أمس، تفتحت عينا "أبو شنب" على صورةٍ لزميله "دراغمة" وهي تملأ صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، يرتدي قميص الفريق "السماوي"، ينعاه الجميع، إذ تبين أنه استشهد خلال اقتحام قوات الاحتلال الإسرائيلي مدينة نابلس شمالي الضفة الغربية المحتلة، وعلى إثر ذلك أُلغيت المباراة، وعم الحزن فلسطين، ورفعت رايات الحداد على رحيله.

حلم اللاعب

"رأيته قبل استشهاده بخمسة أيام، كان يتدرب بمفرده، يحاول التعافي من إصابته، وكان لديه مراجعة قريبة للطبيب"، بصوتٍ يكسره الفقد يفتتح صديقه "أبو شنب" حديثه لصحيفة "فلسطين".

تقفز أمام صديقه صورة أول يوم قدم فيه "دراغمة" للعب في النادي قبل عام، قادما من "نادي طوباس": "كان سعيدًا باللعب في دوري المحترفين، دخل قلوبنا جميعًا كلاعبي وأهالي طولكرم، حتى أن أهالي القرى كافة خرجوا لتعزية عائلته في طوباس".

يردف صديقه: "كان خلوقًا، لا تفارق البسمة وجهه، يدعو زملاءه دائما إلى الصلاة، حليم لدرجة أنه عندما يضربه لاعبو الخصم ويندفعون عليه بقوة كان ينهض بدون أي ردة فعل".

ورغم أن "ثقافي طولكرم" غاب عن البطولات الرياضية، إلا أن "دراغمة" أحدث نقلة نوعية في الخطوط الأمامية للفريق، وساعده في الوصول إلى نصف نهائي بطولة الكأس، وكان يطمح للتتويج بالبطولة، وحصل على الترتيب الرابع لهدّافي الدوري برصيد ستة أهداف، ولولا إصابته لتربع على عرش الهدافين، كما يعتقد صديقه.

لم يتبدد طموح "دراغمة" في اللّعب للمنتخب الفلسطيني، إذ كان قريبًا من تحقيق الحلم عندما استدعي لمعسكر المنتخب الأولمبي قبل أربعة أشهر الذي استمر أسبوعا ولم يستكمل "فلولا رصاصة الغدر الإسرائيلية لوصل إلى حلمه، كان يقول لي بإصرار: "حلمي اللعب في المنتخب، وأن أحصل على بطولة الكأس معكم".

لم يعرف "أبو شنب" كثيرًا عن حياة صديقه "دراغمة" خارج الملعب، لكن في إحدى المرات أعطاه إشارات عن ذلك: "كان يشبّه نفسه بـ(الطبيب المشتبك) عبد الله أبو التين الذي استشهد خلال تصديه لقوات الاحتلال.. وكان دائما يردد: بدي الآخرة، الدنيا زائلة".

يستوطن الحزن صوت صديقه: "استشهاده كان صدمةً للجميع، منذ رحيله لا أستطيع النوم حزنًا عليه".

خرج من منزله مرتديًا ثيابًا جديدة، بعد ساعات أرسلت والدته له رسالة صوتية عبر تطبيق "ماسنجر" بعدما شعرت بتأخره: "أنا مريضة مش قادرة أستناك أكتر"، فرد برسالة صوتية مبتسما يمازحها بسؤال: "أنتِ مريضة ولا بدك إياني أروّح؟".

"أدهم ابنها الأكبر معتقل في سجون الاحتلال للمرة الثالثة، وأحمد أصغر أبنائها اختطفه الرصاص الإسرائيلي الغادر، وبقي لها سلمان؛ ابنها الأوسط، يُهوِّن عليها مرارة الفقد والبعد"، تسرد تلك التفاصيل "أم صهيب" عمة الشهيد، التي نابت عن والدته بالرد على صحيفة "فلسطين".

الساعة الواحدة فجر أول من أمس، أيقظ اتصالٌ والده الأسير المحرر عاطف دراغمة من نومه، أنصت لصوت المتصل الذي بدا مرتبكًا، فسأل المتصلَ: "في شي؟"، حتى وقعت كلمات المتصلِ مدوية ثقيلة على قلبه: "ابنك أحمد استشهد!".

اللاعب المشتبك

أمضى عاطف قرابة 13 عامًا في سجون الاحتلال، ولم يزد عمر أحمد عن عام ونصف لحظة اعتقال والده، وعندما تحرر كان ابنه قد بلغ خمسة عشر عامًا.

لطالما بكى أحمد خلال زيارته والده عندما كان طفلا، لا يعرف الكثير عن السجن، كانت تجف دموعه والسجانون لا يسمحون له بفرصة احتضان والده ولو لمرة واحدة.

الأب الذي علمته السجون الصلابة في المواقف، بدى صابرًا محتسبًا خلال حديثه لـ"فلسطين" يستذكر آخر لحظاته مع ابنه قائلا: "تناولنا طعام الغداء، ثم صليت المغرب والعشاء جماعة معه، ولم يعد بعدها، أحمد رجل بشخصية قوية، شهم لوطنه وبيته، تربى في المساجد، كبر ووعي على زيارة السجون، كان لديه طموح اللعب لمنتخب فلسطين لكرة القدم".

قال بقهر عن استشهاد نجله موجهًا كلماته للاحتلال: "المحتل لا يفرق بين طفل وشيخ وامرأة، نحن أمام احتلال فاشي نازي".

ابن عمته وصديقه من الطفولة قسام سياجات، كان شاهدًا على كثيرٍ من المواقف والأحداث، اشتركا في الهم ذاته، إذ اعتقل الاحتلال والديهما، واستدعيا أكثر من مرة للمقابلة لدى أجهزة أمن السلطة.

يستحضر "سياجات" صورة من طفولة "دراغمة" لـ"فلسطين" تشهد على طموحه ومثابرته: "عندما كان عمره 16 عامًا، كان جسده نحيفا وضعيفا، فبعض مدربي الفرق الرياضية رفضوه، لكنه كان يمتلك عزيمة وإصرارا، فاجتهد وقَوِيَ جسده، وتدرب وأصبح في أفضل الفرق".

اقرأ أيضاً: إضرابٌ شاملٌ في طوباس حدادًا على استشهاد الشاب "دراغمة"

يضيف: "لم تغره النجومية في كرة القدم عن تحدي الاحتلال، كان مشتبكًا، يخرج دائما للتصدي للاقتحامات وهو يقول لي: هذا الطريق ما بنحيد عنه، ودائما كان يطلب الشهادة، كنت أشعر أنه يطلبها بصدق وأحيانا أقنع نفسي أنه يمزح لأني لا أريد مفارقته".

يردف صديقه: أحب أحمد الشهداء براء لحلوح ومحمد الدخيل، وكان لقبه "أبو الهيجا" نسبة إلى الشهيد حمزة أبو الهيجا الذي استشهد عام 2014، درس بكالوريوس "تعليم أساسي" من جامعة القدس المفتوحة في طوباس، لافتا إلى أنهما استُدعيا لمقابلة جهاز الأمن الوقائي عام 2017 لعدة ساعات.

لارتباطه بمباريات وتمارين رياضية، كان "دراغمة" يتذرع بالذهاب إلى النوم مبكرًا، لكن "سياجات" يكشف أنه كان يخرج للاشتباك مع الاحتلال في أي اقتحام للبلد، حتى لو كانت لديه مباراة في اليوم التالي.

احتضنت أمه جسده المسجى أمامها تلقي عليه نظرة الوداع الأخيرة، وهي تطلب من المشيعين التريث ومنحها أطول فرصة لعناقه، وهي تنحب بغضبٍ وحزن، تسأل جسده الساكن: "وين أروح من دونك يمّا!؟".