ظل مكبل اليدين والقدمين، رفض السجانون فك قيد جسده المنهك بالسرطان حتى توقف قلبه عن الخفقان، أخيرًا؛ تقدم سجانان وفكّا قيوده، إذ تحررت روحه من خلف القضبان، أما جسده فحمله السجانون ليكمل حُكم المؤبد في "ثلاجات الأرقام" برفقة 10 جثامين شهداء أسرى لا يزال الاحتلال يحتجزهم.
اقرأ أيضاً: "حماس": احتجاز الاحتلال لجثمان الشهيد ناصر أبو حميد سلوك نازي واضح
استدعيت الحاجة لطيفة أبو حميد مساء أول من أمس لزيارة نجلها الأسير ناصر (50 عامًا)، وهو في حالة فقدان وعي، هزيل الجسد وقد نهشه السرطان كما أكلت قضبان السجن ثلاثين سنة من عمره، فخرجت لتصحح الوصف قائلة: "إنني لم أزره بل ودعته"، فلم يكن خبر استشهاده مستبعدًا عندما رأت علامات الموت واضحة عليه، بعدما نقل من "عيادة سجن الرملة" إلى مستشفى "أساف هروفيه" الذي ارتقى فيه.
والخميس الماضي، حظيت الأم بزيارة ابنها قبل دخوله مجددًا في حالة "غيبوبة"، قبلته ورأت ابتسامته وهو ينظر إليها، وأمسكت يده تشد عليها لتمنحه المزيد من القوة والصبر، لكن هذه المرة أدرك ناصر أن لحظة الوداع قد اقتربت وكان صريحًا معها: "أنا مشروع شهادة، كفيت ووفيت، إذا ربنا تقبلني شهيدًا، بدي أروح عند أخويا عبد المنعم".
"بدي ابني يموت بحضني".. حتى آخر اللحظات ظلت أم ناصر تعلي صوتها وأمنيتها على أمل احتضانه خارج الأسوار للمرة الأخيرة.
رغم هدم منزلها خمس مرات واستشهاد اثنين من أبنائها وأسر أربعة آخرين، رفضت أم ناصر الظهور بصورة المنكسر، وصفعت الاحتلال مجددًا بكلمات صلبة: "ناصر حتى في استشهاده كان قويا، رحل مدافعا عن الأرض والقدس وكل شيء، هذا قدرنا وقدر الشعب طالما هناك عدو يقتل الشعب والأسرى، أقول للاحتلال: نحن أقوى من جبروتك، وأشعر بقوة الله معي، ولن أفتح بيت العزاء إلا عندما نستلم جثمانه".
"كان اللقاءُ الأخير مؤلمًا جدًّا، لا يستطيع التحرك أو التحدث، فقط عيناه مُتجهة إلى الأعلى، وقرأنا القرآن عليه".. هكذا عاشت آخر لحظة معه.
حكاية صمود
والحاجة أم ناصر أبو حميد من مخيم الأمعري بمحافظة رام الله والملقبة بـ"سنديانة فلسطين" لم تبدأ حكاية صمودها باستشهاد ابنها الأكبر ولا بتفجير منزلها في آخر مرة عام 2018، بل منذ ثمانينيات القرن الماضي، حينما كان أطفالها يُعتقلون مددًا متقطعة في الانتفاضة الأولى (انتفاضة الحجارة)، وقد زارت جميع السجون.
وولد الشهيد ناصر في 5 أكتوبر/ تشرين الأول 1972 بمخيم النصيرات بمدينة غزة قبل أن ينتقل للعيش بمخيم الأمعري، وقد اعتقله الاحتلال أول مرة وعمره 11 عاما، واعتقل 4 مرات منذ عام 1989، حتى صدر بحقه حكما بالسجن سبع مؤبدات و50 عاما، أمضى منها 30 عامًا.
برز خلال انتفاضة الأقصى كأحد أبرز قادة كتائب شهداء الأقصى، وأصيب عدة مرات برصاص الاحتلال، حتى التحق أمس بشقيقه الشهيد القسامي "عبد المنعم" الملقب بـ"صائد الشاباك" واستشهد عام 1994.
وللشهيد ناصر أربعة أشقاء أسرى، هم: شريف (45 عامًا) محكوم بالسجن 4 مؤبدات ومعتقل منذ 2002، ونصر (47 عامًا) محكوم بالسجن 5 مؤبدات وأمضى في سجون الاحتلال 29 عامًا، ومحمد (38 عامًا) محكوم بالسّجن المؤبد مرتين و30 عامًا، وإسلام (35 عامًا) معتقل منذ 2018، ومحكوم بالسجن المؤبد و8 سنوات.
رسالة وداع
"أنا ذاهب إلى نهاية الطريق، ولكنني مطمئن وواثق بأنني أولا فلسطيني وأفتخر، تاركًا خلفي شعبا عظيما لن ينسى قضيتي وقضية الأسرى، أنحني إجلالا وإكبارًا لكل أبناء شعبنا الصابر. أنا مش زعلان من نهاية الطريق لأنه في نهاية الطريق أنا بودع شعب بطل عظيم، حتى ألتحق بقافلة شهداء فلسطين، وجزء كبير منهم هم رفاق دربي وأنا سعيد بلقائهم"، بتلك الوصية التي كتبها "أبو حميد" ودع أبناء شعبه، لم يظهر فيها منكسرًا، وقد ختم حياته بالشهادة، وحمل في حقيبة رحيله مراتب النضال كلها؛ فكان الجريح، والأسير، والمحرر، والشهيد.
المحرر أمجد النجار، أمضى 8 سنوات في سجون الاحتلال، في ذاكرته ترسخ مواقف عايش فيها الشهيد "أبو حميد" من كثب، يرويها لصحيفة "فلسطين": "التقيت مع أبو حميد في سجن جنيد المركزي وكان معه شقيقاه شريف ونصر، وكانت تهمته قيادة مجموعة (الأسد المقنع)".
اقرأ أيضاً: استشهاد الأسير ناصر أبو حميد نتيجة الإهمال الطبي
يستذكر النجار حضور سيرة "أبو حميد" في الشارع: "كان أبناء المخيم يرددون دائما أغنية له: يا أسد مقنع، تمشي بشوارع الوطن، والبلطة بإيدك تلمع"، فقد قتل 12 عميلا للاحتلال، وأصبح يشكل رعبًا لكل العملاء في المحافظات والقرى.
لم ينس صورة اليوم الأول لناصر في السجن، يتحرك المشهد أمامه: "أحضروه للسجن وكان مصابًا بعدة رصاصات، وحكم بالمؤبد وهو في عمر 18 عامًا، تم تقديم العلاج له بالمشفى ثم لاحقا أفرج عنه، عرفناه قائدًا نضاليًا، كان الأسرى يعتبرونه أسطورة، ما يميزه العنفوان، يختلف عن الآخرين، فلم يختر حياة الهدوء، بل دائمًا يختار المواجهة، وكان في مقدمة أي احتجاج أو مواجهة مع السجانين".
عُزل أبو حميد عشرات المرات لرفضه "أن يهادن بأي شكل"، يرفض كل أشكال الإذلال حتى عندما ينقل بواسطة مركبة نقل الأسرى من السجون للمحاكم (البوسطة).
الإهمال الطبي
النجار الذي يشغل منصب المدير الإعلامي في نادي الأسير يفتح ملف الإهمال الطبي بحق "أبو حميد"، لافتا إلى أن القصة بدأت في أغسطس/ آب 2021 عندما عانى من مشكلة بالرئتين وكان كثير السعال، لكن طبيب السجن كان يعطيه مضادات حيوية، وبعد فقدان وزنه وعدم استطاعته المشي والوقوف على قدميه، احتج الأسرى في سجن "عسقلان" وطالبوا الاحتلال بإجراء فحص طبي له.
وبحسب النجار، جرى نقل "أبو حميد" للمشفى وأظهرت الفحوصات وجود "ورم" ماطل الاحتلال في استئصاله وإجراء العملية الجراحية لثلاثة أشهر، وعلى إثر تدخل الحركة الوطنية الأسيرة أذعن مرة أخرى وأجرى عملية الاستئصال، وبدلا من إبقائه بالمشفى المدني لرعايته، أعاده لسجن "عسقلان" بعد ثلاثة أيام، وتضاعفت حالته بعد شهر، إذ تبين وجود تضخم هوائي بالرئتين.
بوضع صحي خطير نقل "أبو حميد" للمشفى مرة أخرى، ولكن بدلا من استدعاء الطبيب الذي أجرى له عملية الاستئصال، وفق النجار، أحضر الاحتلال طبيبا متدربًا، حيث استخدم أنبوبا لسحب الهواء من الرئتين من خلال مده من الأنف، وكان حجم الأنبوب ثلاثة أضعاف الحجم المُراد، فدخل في غيبوبة استمرت 37 يومًا، وأجرى فحوصات جديدة بعد عودة الوعي له أظهرت انتشار السرطان في جسده، لكن الاحتلال نقله لـ"عيادة سجن الرملة".
في "الرملة"، أعطي جرعة كيماوي لم يتحملها جسده، بعدما تأكدوا أنه السرطان وصل لمراحله النهائية، ونقل لمستشفى "أساف هروفيه" وهناك استشهد لتعانق روحه الحرية لتشكو ظلم الاحتلال وانعدام إنسانيته.