لأوّل مرة يشعرُ الإنسان العربي بأنّه جزء هام وأساسي من هذا المهرجان الدولي الكروي الذي اعتاد بأن يكون فيه متفرّجا من بعيد، فهي المرة الأولى التي يقام فيها على أرض وتنظيم ورعاية عربية.
دروس مونديال قطر كثيرة، أوّلا وهذا أهمها، الثقة بالشّعوب العربية وطاقاتها غير المحدودة، وقدرتها على تنظيم مشاريع كبيرة وطويلة الأمد، وتحمّل المسؤولية على مستوى أعظم الدول المتقدمة في العالم.
يجب التّعامل مع الإعلام الغربي بحذرٍ دائم عندما يتعلّق الأمرُ بدولة عربية أو بشعب عربي، وعدم ترديد ما يروّجه، فما زال هذا الإعلام بعيدًا عن الموضوعية، وما زالت نظرته وتحليلاته بما يخص العرب استعلائية، ولا يتقبّل العرب إلا كما يريد هو أن يراهم بصورة مشوهة.
أظهر تشجيع الجماهير العربية للمنتخبات العربية وللمغرب بشكل خاص، تعطّش العرب إلى نصر معنويٍ بعد سلسلة طويلة من الحروب الأهلية والانتكاسات التي سببها الأنظمة المتعفّنة، فمنذ زمن بعيد لم تكن مثل هذه الأجواء من المعنويات والحماسة العربية، وكأن هذا المونديال كان العبور نحو الإنجازات المدنية والرياضية.
أكدّت الشّعوب العربية بأنها ليست على دين السياسيين العرب، وأنّها تحمل الشعور بوحدة المصير، رغم ما تثيره بعض الأنظمة من خلافات ونزعات إقليمية، معظمها مفتعل سببه كرسي السُّلطة، هذا الشُّعور يأتي نقيّا من القواعد الشعبية وليس ضريبة كلامية، فالكل يفرح لكل إنجاز عربي والجميع يتألم لنفس السبب.
بعض مقدّمي البرامج في سائل إعلام عربية، توقّعوا الفشل لقطر، بل بشّر أحدهم مشاهديه بأنه لن يكون هناك مونديال، وأنّه سيكون الأسوأ في التاريخ! وأقسَمَ بالله العظيم (تلاتة) أن المونديال سيفشل، وستكون فضيحة دولية وتاريخية لقطر وللعرب! وذلك من خلال السخرية من مساحة قطر وعدد سكانها! لا تثقوا بهذا الإعلام العربي الذي لا هدف له سوى الرّدح للدكتاتوريات، ويميل حسب ميولها.
أظهرت الصحافة الإسرائيلية حقدًا كبيرًا على دولة قطر، إذ جعلت جماهير الملاعب من فلسطين الدولة الـ33 في المونديال، وهم يدركون بأن هذا ما كان ليحدث على هذا النطاق الواسع، لولا تشجيع ودعم السُّلطات، مثل مشاركة المنظمين القطريين في تعليق الرموز الفلسطينية على ملابسهم وأذرعهم وحول أعناقهم، وتوزيعها على الجمهور، الأمر الذي عكس الدّعم الإعلامي الكبير للشعب الفلسطيني في قضيته العادلة، في أرفع المحافل التي عرفتها البشرية وأوسعها.
من يحترم ذاته يُحترم، فقد تمسّكت قطر بمعاييرها الأخلاقية ورفضت الإملاءات الغربية، ولم يكن أمام العالم سوى احترامها.
هل سيكون لمونديال قطر ما بعده، أم أنها "جُمعة مشمشية" ونعود إلى ما كنا عليه؟
الشعور هو أن طفرة معنوية عربية قد وقعت، وأن هذا الحدث غيّر الكثير من المُسلّمات، ومن الأفكار المسبقة لدى الجميع من العرب ومن غير العرب.
وسيكون له ما بعده.
كتب البعضُ عن العمال الأجانب الذين لقوا مصارعهم أو أصيبوا خلال العمل في المنشآت التي أقيمت استعدادًا للمباريات على مدار إثني عشر عاما.
فقد زعمت هيئات ووسائل إعلام غربية أن هناك 6500 حالة وفاة، علما أن أعداد العمال الفلسطينيين الذين توفوا في إصابات عمل في (إسرائيل) في ورشات البناء وغيرها في الفترة المعلنة ذاتها أكثر بكثير، فماذا فعل الإعلام الغربي إزاء ذلك؟ ولماذا يصرُّ بعضُ العرب المحسوبين على اليسار بالذات، على التقليل من شأن أي إنجاز عربي، استرضاء لأهوائهم الحزبية وأيديولوجياتهم الضّيّقة! ألا توجد مراجعات للذات، أم أن الوقت لم يعد يسمح لبعضهم بمراجعة أفكاره؟
كل مونديال وأنتم بخير. تبيّن أن كل الوفيات الأجنبية في قطر، حتى الوفيات الطبيعية بسبب سكتات قلبية أو أمراض عادية وحتى شيخوخة خلال هذه المدة ربطها بعض الإعلام الغربي في بناء المنشآت، علما أن عدد العاملين الأجانب في قطر هو حوالي مليوني إنسان، وأعلنت قطر أن الحوادث المرتبطة مباشرة ببناء الملاعب أقل بكثير مما يعلن على مدار سنوات البناء، وأنها تسعى دائما لتحسين الرقابة والأمان، إضافة إلى أن جميع العمال الأجانب مؤمّنون صحيًا، طبعا لكل عامل وضحية أهميتها الإنسانية،
ولكن المثير للامتعاض هو أن بعض العرب المحسوبين على اليسار، يسرعون لتلقّف الرواية الغربية المدسوسة دون مراجعة للوقوف على الحقيقة، فرحين كأنهم "لاقوا لقيّة".