لم يكن يدر بخلد قادة الاحتلال حينما قرروا في السابع عشر من ديسمبر عام 1992، إبعاد 415 من قادة العمل الإسلامي جلهم من حركة حماس إلى مرج الزهور في جنوب لبنان، في حربه لاستئصال شأفة المقاومة وتغييب قادتها من الساحة الوطنية، أن تغدو بعد حين عصية على الانكسار، تمثل أمل شعبنا الكبير في العودة والتحرير.
حرب أراد منها الاحتلال تغييب قادة المقاومة عن فلسطين وساحتها الوطنية، وطمس القضية الفلسطينية، فحوّل المبعدون "مخيم العودة" إلى قبلة للتعريف بفلسطين وقضيتها، وأوصلوا صوت فلسطين إلى العالم.
أفشل المبعدون الحلم الصهيوني في استئصال مشروع المقاومة، ونجحوا في وأد سياسة الإبعاد الصهيونية، وانتصرت إرادتهم بالعودة إلى أرض الوطن، كخطوة على طريق العودة والتحرير إلى كل فلسطين.
ويوافق اليوم السابع عشر من ديسمبر الذكرى الثلاثين لإبعاد الاحتلال الصهيوني 415 من قادة العمل الإسلامي إلى جنوب لبنان، بعد حملة شرسة شنها الاحتلال عقب أسر كتائب القسام الجندي الصهيوني الرقيب أول نسيم توليدانو.
حرب شرسة
في الرابع عشر من ديسمبر عام 1992م، انتهت المدة التي حددتها كتائب القسام لحكومة الاحتلال من أجل الإفراج عن الشيخ المؤسس أحمد ياسين، مقابل الإفراج عن الرقيب أول نسيم توليدانو والمأسور لدى القسام، خسر الاحتلال حياة توليدانو نتيجة رفض قادته الخضوع لشروط المقاومة.
بعد يومين فقط ألقت كتائب القسام جثة توليدانو على طريق القدس أريحا؛ ما جن جنون رئيس حكومة الاحتلال آنذاك إسحاق رابين، وأعلن من داخل الكنيست الحرب على حركة حماس، فبدأ حربه بإبعاد 415 من عناصر وقادة حركتي حماس والجهاد الإسلامي.
داهمت قوات الاحتلال منازل من وضعت أسماءهم على لائحة الإبعاد، وجُمعوا جميعا بشاحنات غير مخصصة للنقل الآدمي، سارت الشاحنات لساعات عديدة، فظن المبعدون أن الأسر هذه المرة لن يكون في السجون المعروفة والموجودة بغزة والضفة، لكن أقصى ما توقعوه أن تكون وجهتهم نحو سجن صحراء النقب.
بعد أن مضى 60 ساعة ولم تصل الشاحنات إلى مقصدها أدرك المبعدون أن القضية أكبر من الاعتقال، وأن وجهتهم ليست النقب، لحظات حتى وجدوا أنفسهم على الحدود اللبنانية بعد أن أبلغهم الضابط المسؤول أنهم مبعدون بقرار من رئيس حكومة الاحتلال إسحاق رابين.
مخيم العودة
كان رفض الدخول إلى لبنان والاكتفاء بإقامة مخيم على الحدود اللبنانية على تلال الثلج في واد غير ذي زرع من أكثر القرارات الاستراتيجية التي اتخذها المبعدون، إذ صنعوا لأنفسهم مجتمعاً داخل هذا المخيم والذي أطلقوا عليه اسم "العودة" لترسيخ مبدأ العودة القريبة.
نجح المبعدون في تحويل مخيمهم إلى دولة صغيرة، واتبعوا أسلوباً إيجابياً في تنظيم العمل، فقسموه إلى لجان عديدة، وانتخبوا من يديرها، برزت بينها اللجنة الإعلامية التي استطاعت بناطقيها د.عبد العزيز الرنتيسي متحدثاً باللغة العربية باسم المبعدين، ود.عزيز دويك متحدثاً باللغة الإنجليزية، في حشد الرأي العالمي لقضيتهم وإيصالها لأكثر من 100 دولة.
جامعة ابن تيمية
لم يقتصر جهد المبعدين على الجانب الإعلامي فقط رغم أهميته الكبرى، إلا أنهم ساروا بخط متوازٍ في البناء والتربية، فأسسوا جامعة "ابن تيمية" التي ضمت 88 طالباً جامعياً، وحاضر فيها العديد من الأكاديميين المبعدين، وكان التدريس فيها على أسس علمية وجامعية كالمعتمدة في جامعات فلسطين.
كما أنهم نجحوا في التنسيق مع الجامعات الفلسطينية في الضفة وغزة لاحتساب المساقات التي تدرس في جامعة ابن تيمية، وقد تخرج في الدفعة الأولى 15 طالباً؛ واعتُمدت شهاداتهم في جميع الجامعات الفلسطينية بعد ذلك، كما أقامت الجامعة دورات تدريبية لغير طلبة الجامعات، فاستغلوا أوقاتهم، وطوّروا قدراتهم.
عيادة الإبعاد
أراد الاحتلال أن يكون الإبعاد منفى ونكبة لقادة العمل الإسلامي، لكنهم جعلوا من نكبتهم رحلة وتجربة في كل المجالات، فوظفوا طاقاتهم جميعاً، وأنشؤوا عيادة طبية يديرها الدكتور عمر فروانة تعمل على مدار الساعة لمداواة مرضاهم، نجحت في إجراء عدة عمليات جراحية لعدد من المبعدين، حتى إن عدداً من سكان منطقة مرج الزهور تلقوا العلاج فيها.
فصول من العذاب والمعاناة عاش تفاصيلها مبعدو مرج الزهور طيلة مدة إبعادهم، إذ عاشوا في طبيعة مناخية غير تلك التي اعتادوا عليها، وظروف استثنائية لم يعتادوا عليها قط، عمقت إيمانهم أنه لا خيار غير العودة يُقبل.
لم يتوقف المبعدون عن تنظيم المسيرات والوقفات الاحتجاجية للمطالبة بحقهم في العودة، وبرزت من هذه الفعاليات "مسيرة الأكفان" في أبريل من عام 1993م، التي لبس فيها المبعدون أكفانهم واتجهوا نحو الحدود لرفضهم أي قرار سوى العودة إلى ديارهم.
راهن الاحتلال وعلى مدار سنة كاملة على قبول المبعدين بالواقع الذي حاول فرضه، إلا أنهم نجحوا في كسر قرار الإبعاد ووأد هذه السياسة في مهدها، فوافق الاحتلال في سبتمبر عام 1993م على عودة 189 مبعداً إلى ديارهم، فيما عاد الباقون في ديسمبر من العام نفسه.
مرحلة فارقة
وقال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية، وأحد مبعدي مرج الزهور: "استطاع المبعدون العيش في هذه المنطقة الجبلية، وهي جبال نحبها وتحبنا، لأن على وقعها صنعت الانتصارات، وكتبت صفحات المجد والعودة إلى فلسطين في خيام منعزلة، وجسدوا معاني النضال والثبات الفلسطيني".
وأكد هنية أن المبعدين ضربوا نموذجًا ساميًا في الأخوة الصادقة والإيثار، معتبرا الإبعاد مرحلة فارقة جسدت تحولا استراتيجيا في مسيرة حركة حماس والشعب الفلسطيني، ووضعت الأسس للعلاقة مع محور المقاومة وعدد من دول المنطقة.
لحق العار بالاحتلال، فلم يحقق مراده بإبعاد قادة العمل الوطني في تسعينيات القرن الماضي، فعادوا أكثر سعياً إلى مقاومة الاحتلال، بعدما كسبوا تعاطفاً عالمياً مع قضيتهم، لتفشل بذلك سياسة الإبعاد.