مضى نحو شهر على ألمين عاشتهما عائلة العجلوني في شرقي مدينة القدس المحتلة، كان في أحدهما إحياء للنفس والآخر ترك غصة لن يزول أثرها.
من حارة السعدية إحدى حارات الحي الإسلامي في البلدة القديمة، تحدث رسمي العجلوني (67 عاما) بصوت موجوع عن غرفة هدمت قسرًا بقرار من سلطات الاحتلال، وللسبب نفسه الذي هدم بفعله عشرات المنازل المقدسية "البناء غير المرخص".
يقول: "منذ بداية عمري وأنا أسكن في هذا البيت، وقبل 7 سنوات رزقني الله بطفلتي الأولى بعد 20 عامًا من الانتظار، قررت حينها أن أرمم الغرفة العلوية للبيت وتوسعتها".
وبعد انتهائه من تنفيذ المخططات الهندسية، جاءت قوات شرطة بلدية الاحتلال في القدس تسلمه إخطارًا بهدم الغرفة بحجة أنها بنيت دون رخصة، "كان ردي أني لم أبنِ بل رممت الغرفة ووسعتها في حدود بيتي، وطلبوا مني البدء في إجراءات عمل رخصة لكون ما قمت به غير قانوني، مع أني طيلة عمري لم أسمع عن عمل رخصة لأجل ذلك".
ولم يكتفوا بذلك، بل عملوا على تحويل أوراقه إلى المحكمة الإسرائيلية التي أصدرت حكمًا نافذًا بدفع مبلغ مالي قدره 10 آلاف شيقل ضريبة بناء غرفة دون ترخيص، والسير في إجراءات عمل رخصة ترميم.
حدث ذلك في ذروة انشغال رسمي في التجهز لإجراء عملية زراعة كلى تبرعت بها زوجته، يقول: "أمضيت معظم وقتي في السنوات الأخيرة في المشفى، فأنا مصاب بالفشل الكلوي وجاء قرار الهدم بعد مدة قصيرة من إجرائي وزوجتي لعمليات المنح والزراعة".
ويوضح أن الجزء العلوي من البيت هدم قسرًا، تبلغ مساحته 30 مترًا مربعًا، وكان عليه الاختيار بين الهدم القسري بيديه، أو هدم الآليات الإسرائيلية مقابل غرامة مالية 100 ألف شيقل.
ويشير إلى أن إجراءات التقاضي استنفدت خلال فترة تعافيه في المشفى حيث صدر قرار بالهدم النهائي.
يضيف: "لم أعرف أين الوجع الذي أصابني، شعرت بثقل كبير في القلب. عشت شعورًا صعبًا لا أقوى عليه، حدثت نفسي: أنا مش عميل ولا جاسوس لكي أرضخ لقراراتهم، منذ فترة طويلة وهم يقدمون لي عروضا مالية كبيرة لأجل شراء البيت، ولكن لن أبيع شبرًا واحدًا لهم، ولو بموت، هاي البلد ما راح أتركها".
ويوضح العجلوني أن الاحتلال لا يكترث بسياساته العنصرية التي يقوم بها ضد المقدسيين من تضييق الخناق عليهم أملًا بتهجيرهم، لتصبح خالية لمستوطنيهم، ويحاول بكل قوته أن يكون صامدًا وصابرًا على ما ألم به، ليتمتم "الحمد لله نحن بألف نعمة".
لا طفولة في القدس
تبددت طاقة رسمي وهو يتحدث، فأكملت زوجته "أمل" (40 عامًا) الحديث مؤكدة أن حالة زوجها الصحية تراجعت بفعل ما قام به الاحتلال، وبات يعاني ارتفاعًا في مستويات السكر في الدم رغم أنه ليس مصابًا بداء السكري، "كل ذلك من حزنه على الحال الذي ألم به".
ويفترض أن يحظى الزوجان براحة بعد إجراء كليهما عملية جراحة نقل الكلية، لكن الزوجة لم تتمكن أيضًا من ذلك، ففور عودتها إلى منزلها اضطرت للعمل على تفريغ الجزء الذي يشمله الهدم من الأثاث.
وسجل مركز المعلومات الفلسطيني "معطى"، أكثر من 71 عملية هدم في شرقي القدس المحتلة منذ بداية عام 2022 وحتى أغسطس الماضي، فضلا عن عشرات المنازل التي أخطر أهلها بالهدم.
وتضيف أمل: "ما يزيد الغصة في قلبي، غرفة ابنتي التي لم تهنأ بعد بها، فقد جهزتها مؤخرًا بطقم نوم. ومنذ هدمها لم تنفك عن السؤال عن ألعابها، وأين ستنام برفقة شقيقتها!".
صمتت ثواني معدودة، متابعة حديثها وهي تبكي: "حرموهم من طفولتهم، المستوطنات التي تقابل بيتي تتوسع دون أن يطلبوا منهم إجراءات ترخيص، أما نحن فيمنعوننا من بناء حجر واحد داخل بيتنا، هي أولاد المستوطنين يضحكون ويلعبون أمامي، وبناتي يبكون ألعابهم"، مشيرة إلى أنها وضعت سرير طفلتها في ردهة المنزل مقابل المطبخ المفتوح على مدخل البيت بعدما ضيق الاحتلال الخناق عليهم.
بللت دموع أمل وسادتها ليلة هدم الغرفة، وتجتاح الكوابيس منامها خوفًا من أن يقتحم البيت أحد ويتسبب بأذى لها أو لأحد أفراد عائلتها، ولا تفتأ تردد: "حسبي الله ونعم الوكيل، احنا صامدين رغم كل ما يحدث معنا، وما عمري بطلع من داري"، بهذا أنهت زوجة العجلوني حديثها.