قائمة الموقع

والدة الشهيد "أبو صبيح": نفسي أشوفه .. وأغفي "الرملات" على خدوده

2017-08-22T07:22:30+03:00

الأم.. هي تلك الهالة من الحنان والعناية والثقة غير المحدودة والإيمان بأن منتهى الأمان في هذه الدنيا موجود ومرتبط بوجودها، هي معنى عميق وقفت عنده كل الديانات والأطياف والجبابرة، حتى النازية وقفت عند هذا المعنى المتأصل في نفس كل إنسان على هذه الأرض، فقال عنها أدولف هتلر: "يبقى الرجل طفلاً حتى تموت أمه، فإذا ماتت شاخ فجأة"، غير أن الصهيونية لم تأبه به وهو عجز أن يحرك فيها ساكناً.

وإن كان هذا حال "الرجل" كما يقول هتلر، فما هو حال الأم التي فقدت ابنها طفلاً كان أو شاباً أو حتى شيخاً، ذاك المدلل الذي سيبقى عطر الحياة وأجمل أسبابها ومعانيها، الذي كلما أنجب فرداً جديداً انضم للعائلة، زاد قدره وعلا شأنه ومحبته في قلب أمه، التي لم تتمنَ لحياتها بقدر ما تمنت له من خير وحب وسعادة، بل إنها لم تتمنَ لنفسها بل تمنت له.

والدة الشهيد مصباح أبو صبيح، الذي نالت منه رصاصات الغدر الإسرائيلية نتيجة عملية بطولية نفذها في مدينة القدس المحتلة أسفرت عن مقتل اثنين من أفراد شرطة الاحتلال الإسرائيلي، تعبيراً عن رفضه للاعتقال من جهة، ولما تتعرض له مدينة القدس من انتهاكات احتلالية من جهة أخرى.

مصباح هو الذي جاء لوالدته بعد وردة ثماني فتيات، فكان بكرها من الذكور وأول فرحتها بحسب تقاليد مجتمعنا الشرقي، ورغم دلاله كان محباً لوالدتها مطيعاً، "الله يرضى عليه" قالتها والدته مع تنهيدة طويلة أتبعتها بالقول: "ربنا يفرج عنه وعن إلي زيه".

كلماتها عنه.. وكأنه لا يزال على قيد الحياة، بل هو كذلك بالنسبة لها، مصادقاً لقوله تعالى: "بل أحياء عند ربهم يرزقون"، وهي أم مؤمنة بقضاء الله وقدره، وبحقها كأن بأن ترى جثمان ولدها وأن تحف التراب على جسده بيديها، تزرع الورود عند قبره وتزوره كل أسبوع وتطعم الحلوى لزوار المقبرة، فهذا ما بقي لها منه.

وتلك البقية لم تسقط من عين الحقد الصهيونية التي أبت أن تترك لهذه الأم طيب الأثر والذكرى لولدها حتى وهو ميت، فتعالت الأصوات وطالب السياسيون الإسرائيليون بدفن الشهيد أبو صبيح في مقابر الأرقام، حتى يدفنوا معه ذكراه وأعماله البطولية، رغم أن سلطات الاحتلال تشترط على الأهالي في حال تسليم جثامين أبنائهم الدفن ليلاً وبعدد محدود جداً من المشيعين لتطفئ الهالة المتقدة حول ذكرى الشهيد وبطولته، لكن في حالة مصباح كانت تخشى أن تلتهب أكثر فأكثر فتأكل الأخضر واليابس.

نبأ "اختطافه" لمقبرة الأرقام وقع على والدة مصباح كالصاعقة، فهذه الأم التي تنتظر بفارغ الصبر قرار المحكمة الإسرائيلية في الثالث عشر من الشهر المقبل أن تحكم لها برؤية ابنها، ترتعد قلقاً الآن خشية اختطافه منها وزجه في مقابر الأرقام المتناثرة في الداخل المحتل والتي تخضع لرقابة عسكرية ودائرة أمنية مغلقة.

وبحسب الإحصاءات الرسمية، يمتلك الاحتلال الإسرائيلي أربعة مقابر أرقام في الداخل المحتل عام 1948، وهي: مقبرة الأرقام المجاورة لجسر "بنات يعقوب" وتقع في منطقة عسكرية، عند ملتقى الحدود الإسرائيلية – السورية – اللبنانية، وتفيد بعض المصادر بوجود ما يقرب من 500 قبر فيها، لشهداء فلسطينيين ولبنانيين، غالبيتهم ممن سقطوا في حرب 1982، وما بعد ذلك.

ومقبرة الأرقام الواقعة في المنطقة العسكرية المغلقة بين مدينة أريحا وجسر دامية في غور الأردن، وهي محاطة بجدار، فيه بوابة حديدية، معلق فوقها لافتة كبيرة كتب عليها بالعبرية: "مقبرة لضحايا العدو"، ويوجد فيها أكثر من مائة قبر، وتحمل هذه القبور أرقاماً من "5003 – 5107"، ويحتمل أن تكون هذه الأرقام تسلسلية لقبور في مقابر أخرى، إلا أن إسرائيل تدعي بأنها مجرد إشارات ورموز إدارية لا تعكس العدد الحقيقي للجثث المحتجزة في مقابر أخرى.

أما المقبرة الثالثة فهي، مقبرة "ريفيديم" وتقع في غور الأردن، والمقبرة الرابعة هي مقبرة "شحيطة" وتقع في قرية وادي الحمام، شمال مدينة طبريا الواقعة بين جبل أربيل وبحيرة طبريا. غالبية الجثامين فيها لشهداء معارك منطقة الأغوار بين عامي 1965 – 1975، وفي الجهة الشمالية من هذه المقبرة، تصطف نحو 30 من الأضرحة في صفين طويلين، فيما ينتشر في وسطها نحو 20 ضريحاً.

ومما يثير الشجن؛ أن هذه المقابر عبارة عن مدافن رملية قليلة العمق، ما يعرضها للانجراف، فتظهر الجثامين منها، لتصبح عرضة لنهش الكلاب الضالة والوحوش الضارية، دون أي اعتبار لكرامة الشهداء أو مشاعر عائلاتهم، ولا حتى للقوانين والأعراف الدولية التي حفظت كرامة الإنسان حياً وميتاً.

"نفسي أشوفوا.. وأشمه.. وأدفه بيدي، أنا ما كنت بعرف عن نيته لتنفيذ العملية وتفاجأت بما حدث وربنا اختاره شهيد.."، لم تستطع والدته أن تواصل الحديث واكتفت بالإجابة عن كل سؤال طرحته عليها صحيفة "فلسطين" فيما بعد بقولها: "الحمد لله"، وبعد إصرار منا على دفعها إلى الحديث قالت: "أريد أن أسترد جثمانه وأطلب من كل جهة تستطيع مساعدتنا أن تقف إلى جانبنا .. بدي جثمان ابني".

عبارتها الأخيرة كان لها وقع الرصاصة – بدي جثمان ابني- فحكومة الاحتلال التي تحاول أن تستدر عطف العالم من خلال تواصل والدتين لأسيرين إسرائيليين لدى المقاومة الفلسطينية في غزة، يعلم العالم بأسره أنهما جاء للقتل فوقعا في الأسر، تستغل هاتان الوالدتان لكسب تعاطف العالم، وفي المقابل تقف الأم الفلسطينية لا تطلب تعاطفاً لاسترداد ولد قاتل كتلك، بل تطلب حقاً بمس جثمان فارقته الروح ولم يفارق والدته دفء العلاقة مع هذا الجسد.

والدة الشهيد مصباح أبو صبيح، لم تطلب مالاً، ولا جاهًا، ولا حتى إفراج عن حفيديها التوأمين – وهما ابنا مصباح والمعتقلان لدى جيش الاحتلال الإسرائيلي، بل ان كل ما طالبت به هو أن ترى ذلك الوجه الذي فارقها قبل نحو عام، وأن تقبل ذاك الجبين البارد، وأن تمسك تلك الكف التي لطالما أمسكت بيدها لتقبلها وتضعها على الرأس فخرا ورضا، فهل تطلب المستحيل؟!

اخبار ذات صلة