قائمة الموقع

التصريح قيد الفحص.. لم يعد صوت "فاطمة" يغرد في البيت

2022-12-10T13:18:00+02:00

لم تمضِ 5 دقائق منذ خروج جلال من بيته متوجهاً لتقديم العزاء بوفاة أحد جيرانه، حينما ارتج هاتفه، وكان المتصل شقيقه "وحيد"، وما إن قرَّب هاتفه إلى أذنيه حتى وقعت كلمات وحيد مُدوية في أذنيه: "اِلْحَق بنتك فاطمة جلدها ازرقَّ ومبتتحركش"، على غير وعي خرج جلال مسرعاً من بيت العزاء؛ مُثِيراً استغراب كل من حوله.

كانت عقارب الساعة حينها تشير إلى الخامسة و25 دقيقة، أصوات صراخ النساء يعلو شيئاً فشيئاً، بكاء الأطفال بات واضحاً أكثر من ذي قبل، بدأ الناس يتجمهرون حول المكان، ما هي إلا لحظات وإذ بجلال يخرج حاملاً طفلة صغيرة بخطوات سريعة ومتخبطة، وبدموع منهرة كالسيل الجارف صرخ بأعلى صوته: "جيبوا السيارة بنتي بتروح مني".

وصلت السيارة إلى المستشفى وركض جلال مسرعاً إلى غرفة الإنعاش، استنفر الأطباء وأغلقوا باب الغرفة.

لحظات عصيبة

في المستشفى، يقف جلال مترقباً أمام غرفة الإنعاش، ينظر إلى ساعته باستمرار، كل ثانية من الوقت مهمة بالنسبة له، عقارب الساعة تمر بتباطؤٍ شديد!، دموعه المتحجرة على باب عينيه تُعرب عن قلقه وتألمه، دقات قلبه كانت تدق مسامير الخوف بداخله شيئًا فشيئًا، سئم الانتظار على باب الغرفة، صوت الأبوة الكامن بداخله بدأ ينفجر كمن كان خرج عن السيطرة: "افتحوا الغرفة بدي أدخل أطمئن على فاطمة"، التف الأقارب حوله محاولين تهدئة نيرانه المستعرة: "بنتك بخير"، لكن جلال كان يشعر بأمرٍ ما حدث لطفلته بالداخل، قلب الأب لا يُخطئ!.

بالداخل.. هدأ صوت الأطباء في غرفة الإنعاش، جهاز الأوكسجين توقف على العمل ولم يعد تصل أصواته لأذني جلال، نبضات القلب تسير بخط مستقيم، فتحت الطبيبة باب الغرفة، كانت عيناها المتوشحة بالحزن تحمل نصف الإجابة، بينما حمل صوتها الخبر الحزين: "ربنا يصبرك".

لم يكن جلال مستعداً لهذا الوداع، لم يدرك أن فاطمة حزمت حقائب الرحيل بهذه السرعة، كان يستعد لإعلاء صوت الفرح، ليجد دموعه تنهمر بغزارة، يحتضن ابنته الوحيدة، بقلب يعتصره الألم وليت الدموع تستطيع إعادة النبض إلى قلبها المتوقف، لتبدو جثة هامدة، كملاك نائم بلا حركة أو سكنة، لأول مرةٍ بقيت عيناها مغلقةً، ولم ترد على نداءاته: "قومي .. يا بابا!" كما كان يفعل في كل صباح، فتفتح عينيها وترقد على ملامحها  ابتسامة مشرقة مثل شمس تطل من بين الغيوم، فتهبط في قلبه سعادة غامرة.

خلال ثماني سنوات من الزواج وانتظار جلال وزوجته للحظة احتضان طفلهما الأول خضعا لعلاج الخصوبة وأنفقا مدخراتهما، لأجل سماع تغريدة صوت الفرح في داخل البيت ممزوجة بأصوات مناغاة كمعزوفة موسيقية تطرب قلب الأبوين صباح مساء، وهذا ما تم بولادة فاطمة جلال المصري (عام وسبعة أشهر) في مدينة خان يونس جنوب قطاع غزة.

ثقب في قلب الأب!

بعد أقل من شهر واحد من ولادتها وتحديداً في كانون الأول/ديسمبر، اكتشف الأطباء إصابتها بعيب خلقي في الحاجز الأذيني ووجود ثقب في قلبها الصغير، ولا تستطيع العلاج في مشافي غزة، كان الثقب يخرق قلب الأب خوفًا على طفلته مدركًا خطورة حالتها الصحية كما  أخبره الأطباء.

استطاع جلال الحصول على تحويلة طبية من دائرة العلاج بالخارج في وزارة الصحة الفلسطينية لعلاج ابنته في إحدى مشافي القدس المحتلة، التي يُوجد فيها كادر متخصص لتقديم جراحة القلب للأطفال.

أخذ المصري التقرير الطبي وانطلق بسرعة لتقديمه إلى مكتب الشؤون المدنية في مدينة غزة، وما هي إلا أيام قليلة حتى جاءته الموافقة، وحصل على تغطية مالية كاملة من السلطة الفلسطينية، واستكمل كافة الإجراءات القانونية لسفر طفلته، وعندما حان موعد السفر اصطدم بمماطلة الاحتلال الإسرائيلي بحجة أن الطلب ما زال "قيد الفحص".

ونظراً لاستمرار مماطلة الاحتلال، انتكست حالة الطفلة فاطمة وتدهورت صحتها، ففقدت وعيها، وازرقَّ وجهها، ونُقلت بشكل فوري إلى المستشفى؛ قبل أن تلفظ أنفاسها الأخيرة ويُعلن عن وفاتها؛ لتنضم إلى قائمة المرضى الذين قضوا جراء سياسات الاحتلال العقابية تُجاه أهالي قطاع غزة.

في اليوم الثالث للعزاء، بينما كان جلال يحدق بصور طفلته ويتقلب من صورة إلى أخرى، والحزن ينهش قلبه لم يصدق أن هذا الطائر الذي حلق في سماء الفرح داخل البيت، غادر وأصبح البيت فارغاً، لم يعد صوت فاطمة يدوي في أرجاء البيت، كان جلال مستعداً أن يعيش عمره متنقلاً بين المستشفيات على أن يفقد طفلته.

توقف عند صورتها وهي تحمل ألعاباً اشتراها لها في عيد ميلادها الأول، وكان يخطط أن يحيي عيد ميلادها الثاني، بتمكنه من إغلاق ثقب القلب، تنقل إلى صور أخرى عديدة احتضن فيها فاطمة، وأخرى أثناء تنقله فيها بين العيادات والمستشفيات، حتى قاطعته رسالة نصية وصلت إلى هاتفه من الارتباط الإسرائيلي مفادها: "طلب التصريح قيد الفحص"، أمسك هاتفه وحذف الرسالة التي لم يعد لها فائدة الآن، التصريح لم يجئ ما الفائدة إن أتى الآن؟، تشتعل في قلبه جمرات الغضب، وهو يطلق آلاف اللعنات على هذا المحتل الذي حرمه من فرحة انتظرها ثماني سنوات، كما حرم الآلاف من أبناء شعبه، لتبقى فاطمة ذكرى جميلة مرت كطيف على حياة والديها، وشاهدة على دموية الاحتلال في التعامل مع أطفال فلسطين، بتركهم فريسة للمرض ورفض خروجهم للعلاج.

اخبار ذات صلة