فلسطين أون لاين

زوجته تجرّعت مرارة الفقد الثاني

مجاهد حامد.. أعاد مستوطني "عوفرا" لذكريات الانتفاضة

...

غزة/ يحيى اليعقوبي:

عجتْ صالة استقبال الضيوف في المنزل بجميع أفراد العائلة، أمه، وزوجته، وحماته، وخالاته وعماته وإخوته، بعد مرور يومين انقطع خلالهما اتصالهم مع مجاهد حامد (32 عامًا) من بلدة سلواد قضاء رام الله، يتابعون بقلق وترقب مطاردة قوات الاحتلال له.

مرت لحظاتٌ تحبس الأنفاس، تنصت الآذان لصوت الأخبار، وأعينهم تحدق في شاشات الهواتف، الجميع يدرك هذه المرة أن مجاهد لن يعود للسجن الذي قيده 11 سنة، فكان الحدسُ صادقًا حينما دخل شقيقه وهمس في أذن أمه دون الحاضرين: "مجاهد استشهد"، لم يسمع الحاضرون ما قاله، لكن صرخة والدته حملت الإجابة، واسترجع الجميع المولى عز وجل في مصابهم.

 

حدث صاخب

على مدار يومين من المطاردة، أحكم الصمت أوتاده على المنزل، لكن في الخارج كانت أصوات رصاصاته حدثا صاخبا يلاحقه جيش الاحتلال بكل قواته وإمكاناته، حينما بدأ الحدث الأول بإطلاق النار على مستوطنة "عوفرا" شمال شرق مدينة رام الله، مستخدمًا بندقية من نوع "السمينوف" الروسية، استخدمت إبان النكبة الفلسطينية في تصدي المجاهدين للعصابات الصهيونية، وفي الستينيات في معارك الفدائيين مع الاحتلال قبل أن تتوقف، ليعيد مجاهد الحياة للبندقية التي تركت على الرفوف ذكرى تخلد تضحيات الفدائيين.

قبلها بلحظاتٍ، احتضنت أرضه لقاءه الأخير مع زوجته بيان عبد الوهاب حماد، الحامل بشهرها السادس، الذي اختار لها والدها اسم "شهلة" على اسم والدته بعدما تبين جنس الجنين، لم يخلُ اللقاء من مداعبته لطفله محمد (عامان ونصف العام)، احتسيا القهوة تحت دفء شمس الشتاء، في جوٍ عائلي، انتهى بالاجتماع على مأدبة غداء اعترف فيه لزوجته أنه لم "يأكل طعامًا أطيب منه".

غفت عينا "محمد" في حضنه، في حين كانت عينا والده تنظران إلى فلسطين، وإلى دموع الأمهات، يسمع صوت أنين الجرحى، واستغاثة المسجد الأقصى، وضع طفله على سريره، وخرج من المنزل، لم تمر سوى نصف ساعة حتى أعلن جيش الاحتلال إطلاق نار تجاه مستوطنة "عوفرا"، تزامن مع كتابته منشورًا على صفحته على "فيسبوك" يحزم فيه حقائب الرحيل: "إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة (..) سامحوني حان موعدي ولقائي مع الله".

كتب مجاهد فصل معركته الأخير، فاستهدف حافلة للمستوطنين، ثم بعدها بساعات قوة من جيش الاحتلال على مدخل المستوطنة وقوة عسكرية أخرى قربها، لتنتهي المطاردة عصر الأربعاء، بإطلاق النار على سيارة مجاهد، ارتقى في إثرها شهيدًا، في بلدة دير "دبوان" شرق رام الله.

 

الصهر الابن

لم تستطع زوجته الحديث، اختفى صوتها وراء دموعٍ فتحت جرحها الذي لم يلتئم بعد، حينما فارقت شقيقها الشهيد عروة حماد قبل ثماني سنوات، والآن تتجرع مرارة فقدها الثاني، لكن والدتها إخلاص حماد نابت عنها في رواية التفاصيل السابقة لصحيفة "فلسطين"، يأتي صوتها من بيت العزاء عبر الهاتف تُسمع أصوات المعزين: "منذ الإعلان عن الحدث الأول وبدء المطاردة، مكثت مع ابنتي، وبقينا ننتظر ونترقب حتى أعلن عن استشهاد مجاهد في لحظةٍ صعبة وقاسية لم نتوقعها".

قبل ثلاث سنوات ونصف السنة، جاء مجاهد لعائلة حماد يطلب ودهم يحمل في جعبته 9 سنوات من الأسر أمضاها دفعةً واحدةً، لم تترد العائلة في قبوله، تستذكر والدة زوجته تلك اللحظات: "قدمت ابني عروة شهيدًا قبل ثماني سنوات، وأنا عمة الأسير ثائر حماد، فوافقنا لأننا أهالي أسرى أيضًا ونعيش الجرح نفسه".

لم يمضِ أكثر من شهرين على تذوق مجاهد فرحة استقبال ابنه "محمد" حتى كان على موعد مع اعتقال استمر عاما وثمانية أشهرٍ، حرمه من شعور الأبوة، إلا عبر زيارات قليلة كان يسمح فيها الاحتلال لزوجته وطفله بزيارة السجن، من خلف الزجاج العازل الذي حال دون احتضانه، ما دفعه لخوض إضراب عن الطعام استمر 42 يومًا، علقه بعد وعود بإنهاء اعتقاله الإداري وانتزاع قرار إفراج في 19 كانون الثاني الماضي، سرعان ما تراجع عنه الاحتلال ومدد اعتقاله أربعة أشهرٍ، ليفرج عنه في مايو/ أيار الماضي.

تنقل عن ردة فعله لحظة تحرره: "كان متشوقا لرؤية طفله، في أولى اللحظات لم يتعرف محمد إلى والده الذي غاب عنه كثيرا، لكنه حاول تعويضه عن الحنان الذي فقده".

لم يكن مجاهد مجرد صهرٍ لعائلة زوجته، بل كان ابنًا لها، قبل أربعة أشهرٍ لم يفارقهم في فرحين، لم تنسَ حماد الأم وقفته: "كان من أهل البيت، وشاهدا على زواج ابنتي، ثم خطبة ابني، لم يغادرنا بل كان معنا مثل الابن لدرجة أنه رافقنا للمحكمة الشرعية".

تعدد صفاته قبل أن تلقي نظرة على وضعه الاجتماعي: "هو ميسور الحال، يعمل مع والده في قطاع البناء، يحب زوجته وطفله وينتظر بشغف استقبال طفلته، إنسان متدين يحافظ على صلاته وصيامه، حسن الخلق مع الجميع، دائما تراه مبتسما، وهي صفة تلازمه في البيت وخارج البيت، لديه حيوية ومرونة في التواصل مع الناس، ويتأثر بأهالي الشهداء والأسرى".

محمد الذي غفا في حضن والده، وقبلها حرم منه لنحو 20 شهرًا، لم تعوضها الأشهر الخمسة التي قضاها معه، وجد نفسه ينظر إلى جثمان محمول على الأكتاف، أخبروه أنه والده الذي كان يداعبه قبل غفوته الأخيرة، لم يفهم الطفل شيئًا، فما زال ينتظر عودته، ركض إلى حضن أمه الغارقة في دموعها، وحتمًا سيكبر هذا اليتيم مع الأيام، وسيكبر معه جرحه، ثم سيفتخر بوالده الذي رفض الذل واختار الشهادة على العودة للقضبان والأسر والتعذيب.