قائمة الموقع

"محمد حرز الله" يرتقي شهيدًا بعد صراع مع "الاحتلال والموت"

2022-11-27T11:20:00+02:00
الشهيد محمد حرز الله

لم يغب "أسامة" أكثر من ساعتين من الزمن عن شقيقه المصاب محمد حرز الله (30 عامًا)، حتى تلقى اتصالاً من أحد الأطباء يطالبه بالحضور للمشفى فورًا، نظرًا لوجود مضاعفات صحية على حالة شقيقه، وارتفاع ضغط الدم واختلاف درجة الحرارة. طوال الطريق من نابلس إلى المستشفى الاستشاري برام الله، راودت أسامة أفكار تحمل احتمالات عديدة بشأن مصير شقيقه، جعلتهُ يتصل بالطبيب ويلحّ عليه ليضعه أمام الحقيقة، التي لم يخفها الطبيب؛ قائلاً: "أخوك استشهد".

محمد حرز الله، لمن لا يعرفه، هو أحد مؤسسي مجموعات "عرين الأسود"، أصيب في أثناء اشتباكه مع قوات كبيرة من جيش الاحتلال اقتحمت البلدة القديمة بنابلس في 23 يوليو/ تموز الماضي، واستشهد خلالها محمد العزيزي وعبد الرحمن صبح.

عاش حرز الله الذي تعرض لإصابة في الرأس لمدة 60 يومًا في حالة فقدان الوعي "غيبوبة" ممددًا على سرير المشفى، ثم تحسنت حالته، وبدأ يفتح عينيه ويتناول الأكل، وهذا ما بث الأمل في قلوب أسرته بأن ينقل لمستشفى التأهيل، وفي آخر 24 يومًا تدهورت حالته إلى أن استشهد.

ألم لم يقطع الأمل

شقيقه الأكبر أسامة (36 عامًا) وهو موظف بلدية حصل على إجازة من عمله لأجل مرافقة شقيقه بالمشفى طوال مدة العلاج التي استمرت 133 يومًا، يلسع جرح الفقد صوت شقيقه وهو يروي لصحيفة "فلسطين" قصة مقاوم بدأت رحلته من الحجر والمقلاع والمولوتوف حتى السلاح، يصلك أصوات المعزين لحظة اتصالنا: "الحمد لله، ربنا يصبرنا على فراقه، أخي هو ابن فلسطين".

كل الكلام حُبس في مخارجه، ولم يستطع محمد نطق أي اسم طوال فترة العلاج، سوى اسم شقيقه "أسامة" الذي كان يجري على لسانه، يستحضر صور التحسن: "وصل لمرحلة ينادي فيها علي باسمي: أسامة، أسأله إن كان يريد الأكل فكان يعطيني إشارات، أطلب منه الصلاة بعينيه، لم أفارقه إلا ساعة أو ساعتين باليوم لتبديل الملابس فقط، كنت أمضي معه عشرين ساعة يوميا منذ إصابته (...) عطلنا حياتنا وأشغالنا التي توقفت لأجل عيني أخي "أبو حمدي".

"أنت واجهت اليمام، فكيف للبكتيريا والحرارة والإصابة بدها تهزمك!؟".. بتلك الكلمات كان أسامة يحاول شحن معنويات شقيقه، مشاهد تغرس جذورها بذاكرته: "كنت أقول له أيضًا: أنت سند لأهل البلد، للناس، حتى أرفع معنوياته، أذكره بالماضي الجميل، مساعدته للناس بالخفاء، فكان أخي صاحب همة وفزعة، رغم أنه صامت قليل الكلام كثير العمل". ترافق الدموع صوته.

طوال الستين يومًا، كانت عينا أسامة تراقب إشارات أجهزة التنفس، تمنى أن تأتي اللحظة وتُفتح عينا شقيقه، حتى خرج محمد من الغيبوبة، كأنما ردت الحياة لقلبه: "رفعوا جهاز التنفس عنه، وبدأت حالته تتحسن تدريجيًا، كان يحرك يده اليسرى، الكلمة الوحيدة التي نطقها فقط اسمي: "أسامة". وقد انتظرنا نقله لمستشفى التأهيل".

يردف بصوت يعتصره الألم: "لكن للأسف البكتيريا تفاعلت بشكل كبير في الدماغ وتدهورت حالته".

عرف عن محمد أنه مقاتل شرس، يدافع عن وطنه وأصدقائه، وحادثة إصابته يقدمها شقيقه دليلاً على ذلك، يروي بصوتٍ يكسره الفقد: "دخل من بين زقاق البلدة القديمة لمنطقة يحاصرها الاحتلال من كل الاتجاهات، بهدف رفع الطوق الأمني عن عائلتين وصديقه العزيزي وصبح، فاشتبك مع قوات الاحتلال التي تراجعت للخلف وأخّر اقتحامهم 40 دقيقة، ولم تزد المسافة الفاصلة بينه وبين الجنود على 15 مترًا، كانت الاشتباكات مباشرة من مسافة قريبة".

يصف المنطقة "بأنها مخيفة ولا يستطيع أحد الدخول إليها" لكن شجاعة شقيقه صاحب القلب "الميت" كما يصفه جعلته يقتحمها تحت زخات الرصاص. ما زال غير مصدق تلك الجرأة: "اعتقدت أنه إما دون وعي أو يريد الشهادة، شاب بمفرده يدخل إلى منتصف نقطة تحاصرها قوات الاحتلال، ويشتبك حتى أصيب بالمنطقة اليسرى من الدماغ".

الطفل المقاوم

ورغم بلوغ محمد سن الثلاثين عامًا، توقع شقيقه أسامة استشهاده قبل عشرين عامًا، عندما كان طفلاً وفتى صغيرًا، لشدة انخراطه في مواجهة الاحتلال بدءًا من الحجر والمقلاع والمولوتوف حتى السلاح.

"في أي مكان وجد الاحتلال كان أخي يرشق قواته بالحجارة بكل شراسة"، ينتقي مشهدًا من أدراج الذاكرة لا يقل جرأة عن مشهد اشتباكه الأخير، ما زال يذكر التاريخ جيدًا، يوم 21 مارس/ آذار 2003، "في أثناء اجتياح قوات الاحتلال الضفة الغربية، فتح محمد باب ناقلة جند، فأطلقوا 25 رصاصة مغلفة بالمطاط على قدميه".

يومها طلب محمد من أسامة ألا يخبر والدهما، مفضلا تحمل ألم الإصابة على إخبار والده، حتى لا يمنعه من الخروج مجددًا، ثم اعتقله الاحتلال أواخر 2013 لمدة عام ونصف العام، وخاض تجربة اعتقالٍ.

كان محمد وأسامة أكثر من شقيقين، يطل الأخير على هذه العلاقة، ويسكن الحزن بين نبرات صوته: " أبو حمدي صديقي وليس أخي فقط، كنت أمين سره، وهو كذلك، تجمعنا غرفة مشتركة واحدة، لدينا تفاصيل حياة واحدة وكاملة، حزين جدا على فراقه، لكن عزائي الوحيد أنه شهيد".

انتشر للشهيد فيديو على مقاطع التواصل وهو يتلو آيات من كتاب الله، تتحرك هذه الآية بصوته مغمضًا عينيه تحت تأثير المخدر "البنج" في إثر عملية جراحية بالمعدة أجراها في نوفمبر من العام الماضي "من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا".

رحل محمد حرز الله شهيدًا، لتعانق روحه أرواح أصدقائه، لم يبدل طريق المقاومة والنضال والجهاد، حتى ختم طريقه بالشهادة التي كانت أسمى أمنياته في حديثه مع أهله وأصدقائه: "يا على القبر يا بلاش" حاملاً معه ثلاثية النضال الفلسطيني، فكان أسيرًا وجريحًا وشهيدًا.

اخبار ذات صلة