رغم مواصلة الاحتلال الإسرائيلي حصاره المشدد على مدينة نابلس شمالي الضفة الغربية المحتلة، وخنقها اقتصاديًّا للضغط على مقاوميها، فإن عشرات الآلاف من أهالي المدينة خرجوا في جنازة تشييع خمسة شهداء ارتقوا خلال اقتحام قوات الاحتلال المدينة، كان من أبرزهم وديع الحوح القائد في مجموعة "عرين الأسود" التي تتخذ من البلدة القديمة في المدينة مقرًّا تتحصن فيه.

ومثلت صورة الحشد الجماهيري المهيب بجنازة الشهداء في 25 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي رسالةً واضحةً للاحتلال أن الحاضنة الشعبية مستعدة لدفع الأثمان، وأن سياسة العقاب الجماعي لن تجدي نفعًا مع الشعب الفلسطيني، الذي وصل إلى قناعة أن طريق التسوية والمفاوضات لم يحقق آماله وتطلعاته، وبات خياره الوحيد المقاومة للانعتاق والحرية وتحرير الأرض المحتلة.

ففي مخيم شعفاط بالقدس المحتلة، قدم أهالي المخيم نموذجًا فريدًا في احتضان المقاوم عدي التميمي خلال 11 يومًا من المطاردة، تخلل ذلك إغلاق مدخلي الحي الرئيسيين، وحلق شباب المخيم شعر رؤوسهم للتشبه به، لتضليل الاحتلال وتأخير وصوله إليه، إضافة لتحمل الأهالي إجراءات وعقوبات جماعية وعنصرية.

وفي جنين، تلعب الحاضنة الشعبية للمقاومة دورًا كبيرًا في إيواء المطاردين والمقاومين، وفي تبليغهم وإنذارهم عن تحركات قوات الاحتلال، ما ساهم في زيادة أعداد المقاومين في المخيم على غرار ما كانت عليه عام 2002، وبات المخيم مأوى المطاردين الذين يحتمون فيه كالمطارد ماهر تركمان؛ والد منفذ عملية الأغوار، وفتحي خازم والد الشهيدين رعد وعبد الرحمن.

تضحية وإسناد

يقول الكاتب والمحلل السياسي ساري عرابي: إن السيرة التاريخية للشعب الفلسطيني تظهر احترامه وعنايته بالمقاومين واحتضانهم، فكل فلسطيني يبحث عن الدور الممكن القيام به، فهناك من يجده في حمل السلاح والاشتباك مع الاحتلال، وهناك من يجده في إسناد المقاومة ودفع الأثمان لذلك.

وأضاف عرابي في حديث لصحيفة "فلسطين" أن الضفة الغربية عانت خلال الانتفاضة الثانية أكثر بكثير مما تعانيه نابلس اليوم من حصار، إذ فصل الاحتلال المدن عن بعضها وحاصرها، حتى أن الحواجز التي أنشأها آنذاك لا تزال قائمة حتى اليوم.

ويرى أن الجماهير الفلسطينية باتت تعتقد بشكل واضح وقطعي أن مشروع التسوية الذي تقوده منظمة التحرير قد فشل والسلطة لا تقوم بواجبها، وأن هناك تحديات في القدس والضفة الغربية، وانتهاكات من الاحتلال ومستوطنيه لا بد من مواجهتها.

وما يعزز الحاضنة الشعبية للمقاومة، وفق عرابي، هي حالة الإلهام التي مثلتها المقاومة في قطاع غزة، إلى جانب المصداقية لهؤلاء الشباب الذين يرتقون دفاعا عن أرضهم ومقدساتهم، وليس مجرد الاستعراض.

ويعتقد أن كل هذه العوامل مجتمعة وعوامل أخرى ترتقي بالفعل النضالي في الضفة الغربية التي تعيش هبات متواصلة منذ عام 2014، ارتقى فيها عشرات الشهداء واعتقل الآلاف، الأمر الذي يعزز الحاضنة الشعبية للفعل المقاوم.

ولذلك، وفق عرابي، يعمل الاحتلال على تفكيك الاحتضان الشعبي للمقاومة من خلال أدوات متعددة، أبرزها تحويل المقاومة إلى عبء على الجماهير، من خلال الحصار وتنفيذ عقوبات جماعية كما يحصل في نابلس التي تعد ممرًا يربط شمال الضفة بوسطها، وهو ما يؤثر على كل الضفة اقتصاديا واجتماعيا.

وأردف أن الاحتلال يسعى من حصار نابلس إلى تحويل المنطقة التي تنشأ فيها مجموعات مقاومة إلى نموذج ترهيب للمناطق الأخرى، بالاعتماد على العقوبات الجماعية والحصار الاقتصادي، وقطع التواصل الاجتماعي بين المواطنين.

ورغم ذلك تلعب الحاضنة الشعبية دورا كبيرًا في مواجهة الاحتلال، حيث إن هدف المقاومين أن يكونوا جزءا من مشروع التحرير، وفق عرابي، معتبرا أن الارتقاء بالحاضنة الشعبية على مستوى الوعي والثقافة والانشغال العام، والقضية بين الفعل المقاوم والحاضنة الشعبية، قضية تبادلية.

وتابع أن المقاومة ترتقي بوعي وثقافة الناس، في حين للحاضنة الشعبية دور بالاعتناء بالمقاومين، وهذا أمر أكبر من مجرد إيوائهم أو مساعدتهم بإنذارهم من قوات الاحتلال، فكلما توسعت هذه الحاضنة كلما توفرت البيئات المناسبة لاتساع رقعة الفعل المقاوم، ما يساهم بخروج نماذج مقاومة جديدة ومستمرة.

وفاء لدماء الشهداء

ويرى الكاتب والمحلل السياسي عمر عساف أنه رغم الحصار والقتل والإرهاب الإسرائيلي يثبت شعبنا كل يوم أنه قادر على تصعيد وتوسيع دائرة الاشتباك مع الاحتلال، ولذلك أكثر من إشارة أبرزها التفاف الشعب حول خيار المقاومة وفكرها وأبنائها.

واعتبر عساف في حديث لـ"فلسطين" الحاضنة الشعبية نوعا من الوفاء لتضحيات الشهداء، وبهذا يجن جنون الاحتلال فيصعد من جرائمه التي يظن أنها قادرة على إخماد المقاومة، ليجد تصاعدا وانتشارا وتجذرًا لها في كل مكان كالعدوى.

ويعتقد أن الشعب يدفع الثمن عن وعي وطيب خاطر لأنه يدرك جيدا أن حرية الأرض والاستقلال لا يحققه شعب دون تضحيات، وكل هذا يفسر ما يجري في الأرض المحتلة، لافتا إلى أن هذا الاحتضان مؤشر على أكثر من أمر، أهمها صحة وعافية الشعب وفشل كل محاولات تدجينه ليتقبل خيار الهزيمة والاستسلام، وأن كل محاولات "كي الوعي" ارتدت على المعتدين، وهو مؤشر أيضا على أن الشعب يدرك جيدًا أن الخروج من المأزق الذي سببه فريق "أوسلو" هو المقاومة لردع المحتل.

وأرجع سبب التفاف شعبنا حول ظاهرة "عرين الأسود" إلى الفراغ الذي تمر به الحالة الفلسطينية التي تعيش مآزق متعددة، وأن هناك من يملأ هذا الفراغ بالتضحية والدماء، وقد جاءت "مقاومة جنين" و"عرين الأسود" لتكون النموذج الذي يفتقده المواطنون منذ عقود، لقيادة الشعب إلى بر الأمان.

كما يعتقد أن الاحتضان الشعبي من شأنه توسيع ظاهرة المقاومة، لأن الشباب وهم يرون أن نموذج البطولة يحظى باحترام شعبهم، يلتفون حوله، ويجعلهم واثقين أنهم ليسوا وحدهم، بل الشعب كله معهم.

وهذا الاحتضان يرفع معنويات المقاومين ويشد أزرهم، ما يساهم في توسيع رقعة المقاومة وانتشارها في مواقع مختلفة، ما يجعل الاحتلال يدفع ثمن جرائمه، ويحول الظاهرة من مقاومة محدودة إلى ما يقترب من الانتفاضة الشعبية التي تبشر بكنس المحتل.