مئة وخمسة أعوام مرت على "وعد بلفور" المشؤوم، ذلك الوعد السياسي الذي قدمته الحكومة البريطانية لليهود باستملاك أرض فلسطين رغمًا عن إرادة أهلها، وساهمت بشكل مباشر في ترويج روايتهم التاريخية المزيفة بأن أرض فلسطين هي أرض آبائهم وأجدادهم، ورفعت شعارهم الكذوب بأن فلسطين أرض بلا شعب، لشعب "أي اليهود" بلا أرض، وأقامت كيانهم اليهودي في قلب الأمة العربية والإسلامية لأهداف بريطانية استعمارية خبيثة.
تمر هذه الذكرى في ظل تصاعد المقاومة الفلسطينية في الضفة المحتلة، وسط إرهاصات باشتعال انتفاضة فلسطينية، واستعادة الكفاح الفلسطيني المسلح جذوته من جديد، في سلسلة عمليات فدائية طالت كل المحافظات في الضفة والقدس، من نابلس وجنين شمالًا إلى الخليل جنوبًا، في رسائل فلسطينية واضحة بصمود الشعب الفلسطيني أمام عنجهية الاحتلال ومستوطنيه.
تعاظم المقاومة الفلسطينية تؤكدها إحصاءات القتلى الصهاينة التي بلغت خمسة وعشرين قتيلًا أردتهم المقاومة في عملياتها البطولية التي جاوزت 2204 عملية مقاومة متنوعة منذ بداية العام، وهي الحصيلة الأعلى من القتلى الصهاينة في الضفة منذ سنوات بحسب صحيفة يديعوت أحرنوت العبرية.
قراءة سريعة للمقاومة الفلسطينية نجد أنها انطلقت بُعَيد الاحتلال البريطاني للأرض الفلسطينية عام 1917، ففي أيار من العام 1919 اندلعت ثورة فلسطينية في يافا ضد الهجرة اليهودية، وفي نيسان 1920م انطلقت ثورة شعبية أخرى في يافا رفضًا للوجود البريطاني والتغلغل اليهودي، وفي أغسطس من العام 1929 كانت ثورة البراق التي أعرب فيها الشعب الفلسطيني رفضه لتهويد المسجد الأقصى المبارك، واستمر النضال الفلسطيني والمقاومة بكافة أشكالها دون توقف مع انتفاضة 1933، وتظاهرات 1935، وثورة 1936 ضد الاحتلال البريطاني والهجرة اليهودية المتصاعدة آنذاك.
المقاومة الفلسطينية التي تصاعدت أعقاب النكبة الفلسطينية وإقامة كيان الاحتلال شهدت عمليات فدائية نوعية في حقبة ستينيات وسبعينيات القرن الماضي ضد الصهاينة المحتلين، وتُوجت تلك العمليان بانتفاضة الحجارة التي عمت الأرض الفلسطينية عام 1987، لتتبعها هبة النفق عام 1996، وانتفاضة الأقصى عام 2000، وانتفاضة القدس عام 2015، وهي ثورات وهبات شعبية تؤكد تمسك الشعب الفلسطيني بحق الدفاع عن أرضه ومقدساته، ضمن سلسلة موجات فدائية متتالية بأشكال متعددة، دون أن يتمكن الاحتلال الصهيوني من إطفاء جذوتها، أو إخماد نارها المشتعلة حتى يومنا هذا.
واليوم تظهر في ساحة الضفة والقدس كتائب مسلحة من الفدائيين الأبطال، الذين يمثلون جيلًا فلسطينيًّا نشأ على حب المقاومة، وأقسم على مواجهة المحتل، دون التفات لتهديدات الاحتلال، أو إغراءاته الاقتصادية، وأوهام التعايش الذليل في كنف الاحتلال، فكانت النتيجة رعبًا أصاب المستوطنين الصهاينة، وباتوا لأول مرة منذ سنوات يخشون تنفيذ اقتحاماتهم المتكررة لوسط مدينة نابلس، وكأن تجربة المقاومة التي دفعتهم للفرار من غزة عام 2005 تقف اليوم ماثلةً أمامهم خوفًا من تكرار مشاهد الانسحاب المخزي تحت وطأة الضربات المتلاحقة للمقاومة الفلسطينية.
تؤكد الأحداث الميدانية أن الضفة والقدس اليوم تسير على نهج المقاومة في غزة، وأن مرور مئة وخمسة أعوام على وعد بلفور المشؤوم، والاحتلال البريطاني ومن ثَمَّ اليهودي للأرض الفلسطينية، لم يفت في عضد الشعب الفلسطيني، أو ينال من عزمه على نيل الحرية والاستقلال، وأن التضحيات الجسام التي قدمها الفلسطينيون طلبًا للحرية لم تُضعف عزيمتهم، أو تكسر إرادتهم وثباتهم فوق أرضهم المحتلة.
ختامًا فإن ذكرى بلفور الأليمة التي تأتي اليوم على وقع عملية الخليل البطولية التي قُتل فيها مستوطن صهيوني وأصيب عدد آخر من عتاة المتطرفين الصهاينة، لَتُؤكدُ أن الشعب الفلسطيني ما زال ينبض حبًّا بالمقاومة التي تزداد جذوتها لمَعَانًا مع كل عملية فدائية جديدة، وهي إشارة على أن ما كان يخشاه الاحتلال قبل سنوات من تمدد المقاومة في كافة المدن والبلدات الفلسطينية في الضفة بات اليوم واقعًا ملموسًا، وأن غدًا سيكون لا محالة أكثر رعبًا للمستوطنين وقساوة على جنود الاحتلال.