قبل عشرين عامًا، بادر حمدي شرف ابن السادس الابتدائي آنذاك للتطوع لزملائه بالمدرسة الذين قرروا تنظيم جنازة رمزية لشهيدٍ ارتقى في نابلس حينها، فتقمص دور الشهيد، فحمله الطلاب يزفونه طوال الطريق حتى وصلوا "دوار الشهداء" يهتفون ويكبرون، لفت المشهد انتباه الناس وأحد المصورين الذين وثق الحدث الذي انتهى بفتح "حمدي" عينيه المغلقتين وبانت منه ابتسامةً أمام أصدقائه وعاد على قدميه لمنزله يروي لأمه القصة.
بعد عشرين عامًا من الحدث السابق، خرجت نابلس الثلاثاء الماضي في جنازة مهيبة تشيع شهداءها الخمسة الذين ارتقوا إثر العدوان الإسرائيلي على المدينة، حُمل حمدي على الأكتاف للمرة الثانية في حياته، لكن هذه المرة لم يتقمص الدور بل كان أحد الشهداء، لم يحمله بضعةُ طلاب، بل كان يحيط بجثمانه عشرات الآلاف ممن شاركوا بتشييع الجثامين، وزُف للمرة الثانية، كان يغلق عينيه لكن لم يفتحهما، لم يعد لأمه ليروي لها القصة، بل ووري الثرى، لتروي أمه وزوجته وشقيقه قصته.
فمع دخول فجر الثلاثاء الماضي، هزّ صوت انفجار البلدة القديمة بمدينة نابلس، همَّ حمدي للنزول من بيت عائلة زوجته لرؤية ما يجري، لكن زوجته شدته من يده، تتشبث به خوفًا عليه وتستجديه: "تنزلش"، أفلت يده، لكن ظلت تنادي عليه: "ارجع.. ارجع"، لحق به شقيقها، ثم والدها وأحضر الاثنين.
لم يستمر وجوده دقيقة في البيت حتى تلقى اتصالا هاتفيا من ابن عمه، كانت زوجته تنصت لصوته وهو يقول للمتصل: "والله شكله في قوات خاصة"، أغلق الهاتف ونزل مرةً أخرى، سمعت صوت زوجها المرتفع "في قوات خاصة، جيش، جيش، جيش"، ثم صوت شقيقها: "يا رب.. حمدي".
تضحية وإفشال مخطط
"يا شباب، جيش، جيش، جيش" كلمة رددها ثلاث مرات، كانت كفيلة بإفشال مخطط استهداف اجتماع لقادة مجموعة "عرين الأسود"، لتخترق رصاصة أطلقها قناص إسرائيلي صدره، ويده، انتقامًا منه لإفشال المخطط، في حين تمكن معظم أفراد المجموعة من الانسحاب باستثناء قائدها وديع الحوح الذي خاض اشتباكًا حتى آخر نفس.
تجلس زوجته المكلومة بوجهٍ شاحب في بيت العزاء تواسي نفسها على الفقد المبكر، تنظر لطفليها الصغيرين: "طفلي إياد يحب والده جدا، ويسألني متى سيعود"، يكسر الفقد صوتها: "لا أعرف ماذا أقول له، ابنته الصغيرة أصبحت بعمر عام ونصف، بدأت تتعرف عليه".
تبكي حسرة: "أطلقوا النار على زوجي ظلمًا، لم يفعل شيئًا، فقط لأنه قال بصوتٍ عال: قوات خاصة، وهو أول شخص أصيب بالعدوان، وأول شهيد".
يروي شقيقه فادي شرف لصحيفة "فلسطين" تفاصيل الحدث، فقد استشهد حمدي وأصيب شقيق زوجته.
علي عنتر هو يعمل حلاقا أيضًا استشهد خلال العدوان، لا يبعد محله كثيرًا عن محل حمدي، وكذلك لم يبعد مكان استشهاده كثيرًا عن جاره، رغما أنهما لم يسيرا معًا لحظة استشهادهما، يردف شقيقه: "كان الفاصل الزمني بين استشهادهما عدة دقائق، لكن علي وحمدي، كانا جارين يترددان على بعضهما البعض، خاصة أن صالوني حلاقة الاثنين لا يبعدان عن بعضهما كثيرًا".
حمدي المحبوب
لا يفر مشهد الجنازة من حديث شقيقه: "لدينا عادة في نابلس أن الشهيد يجب أن يصل إلى دوار الشهداء ويكون قد مر بالعديد من الشوارع والطرقات قبل دفنه بالمقبرة الشرقية أو الغربية، حتى يترحم عليه الناس، لكن الحقيقة لم أرَ جنازة مهيبة كالتي خرجت في تشييع أخي وبقية الشهداء".
قبل يوم من استشهاد حمدي، زاره شقيقه وكان متأثرًا باستشهاد تامر الكيلاني الذي اغتاله الاحتلال، ردة فعله حاضرة أمام عيني شقيقه، وفي صوته المتألم: "ذهبت لأعطيه غرضًا طلبه مني، فكان يبكي رحيل تامر، بدا متأثرًا وقال لي: راح تامر يا فادي، إن شاء الله بنلحقه".
تفاجأ فادي بكرم شقيقه، وصدقاته التي كان يقدمها ولم يكن يعلم عنها، إلا عندما استشهد وبدأ أصحاب تلك القصص يروونها له، ينتقي واحدة منها: "أخبرني أحدهم أنه ذهب إليه يوم العيد يشتكي إليه، أن إخوته رفضوا مساعدته، فقال له أخي حمدي: اعتبرني أخوك، وقدم له مساعدة مالية لشراء ملابس وعطور، وقام بالحلاقة له".
ما ذكره شقيقه، عايشه طاهر عميرة أحد جيران المحل، يقول لـ"فلسطين" عن الشهيد: "كان خدومًا لجيرانه والناس والتجار وأصحاب المحلات، كل صباح قبل فتح محله كان يمر على كل صاحب محل ويرد تحية الصباح ويمازحهم، أو يفطر عند بعضهم، وغالبية أهل البلدة من كبار وشباب وأطفال كانوا يحبون الحلاقة عنده، عرفته طيبًا حنونًا مع عائلته وجيرانه بشكل لا يوصف، يتصدق في السر".
صالون "الأغا" اسم محل الحلاقة الذي يملكه حمدي بقي مغلق الأبواب، وشاهدًا على تضحية صاحبه، علمًا أن المحل يقع في بيت الشهيدة لينا النابلسي، ويفتح أبوابه على أطراف البلدة القديمة في نابلس، ولا غرابة أن يستأجر شهيدٌ محلاً من عائلة شهيدة، في مكان تشهد كل حجارته على دماء شهداءٍ سالت دفاعا عن "جبل النار"، فخلال الانتفاضة الثانية شيعت المنطقة نحو 70 شهيدًا.