يمكن ملاحظة أربعة نماذج من المقاومة في الموجة الأخيرة من انتفاضة الشعب الفلسطيني ضد الاستعمار الصهيوني وأدواته العسكرية والعنصرية، هي نماذج متعددة ومتغيرة، ولكنّ فكرتها أو جوهرها واحدٌ وثابتٌ لا يتغير، ولا يمكن القضاء عليه مهما عربد الاحتلال واستخدم من وسائل قمعية أمريكية متطورة وفتاكة، وهو المقاومة بكل الوسائل ضد المحتل الأجنبي البغيض. فما هي هذه النماذج؟ وما هي التحديات التي تواجهها؟ وكيف يمكن أن تتحول إلى فرصة حقيقية لصالح الشعب الفلسطيني المظلوم؟
نموذج المقاومة الفريد الذي تحرك بدوافع مقاومة الظلم ورفض الظالمين وهو يرى ممارسات الاحتلال، تزداد شراسة ضد أبناء شعبه، خاصة على الحواجز العسكرية التي تقيمها سلطات الاحتلال في مئات المناطق المنتشرة في الضفة الغربية والقدس. ولقد شكّل الشهيد المقدسي عدي التميمي مثالا متجددا لهذا النموذج، ومن قبله كان مهند الحلبي ومحمد علي وغيرهم. في الغالب تلقى هذا الشاب توجيهات عبر مواقع التواصل الاجتماعي المنتفضة ضد الاحتلال، وقد يكون ينتمي فكريا إلى حماس أو الجهاد أو فتح أو غيرها من التنظيمات، دون أن يكون عضوا فاعلا فيها.
أمّا النموذج الثاني، فهو الحراك الشعبي القوي والمباشر وتحديدا في منطقة القدس؛ دفاعا عن الأقصى المبارك وردا على اقتحامات المستوطنين المتكررة له، وقد تطور هذا النموذج إلى نوع من النظام والتنظيم، من خلال بعض الاتصالات بين قادة المقاومة المبعدين وأولئك في الميدان، كما أظهرت بعض التحقيقات الإسرائيلية.
يعدّ مخيم جنين المنيع والحصين في وجه اقتحامات أجهزة أمن الاحتلال وبعيدا عن سيطرة أجهزة أمن السلطة، نموذجا ثالثا للمقاومة الفلسطينية في الفترة الأخيرة، وجوهره دفاعيّ أكثر من هجومي لأسباب موضوعية وذاتية متعددة.
أما عرين الأسود في نابلس، فهو النموذج الرابع، وقد يعدُّ الأخطر على الاحتلال بإمكاناته الهجومية التي تمنحها جغرافيا وديموغرافيا نابلس لهذا التشكيل المقاوم، ولكنه في المقابل أكثر عرضة لهجمات قوات الاحتلال، وهو المستهدف رقم واحد للتصفية كتشكيل لا كفكرة مقاومة ثابتة لا يمكن القضاء عليها.
يمكن القول بأن هذه النماذج هي الحل العفوي والإبداعي الذي يقدمه شعبنا الفلسطيني في الضفة الغربية والقدس في ظل ضربات العديد من أجهزة الأمن العربية والفلسطينية والإسرائيلية والأمريكية والأوروبية لتنظيمات المقاومة العريقة، وقد تكون هذه التشكيلات والنماذج مقدمة مهمة وضرورية لعودة التنظيمات الكبيرة القادرة على مواجهة الاحتلال بصورة أكثر فاعلية ونجاعة، والفرضية هنا أنه لا يمكن هزيمة الاحتلال أو مواجهته بصورة فاعلة دون هذه التنظيمات.
ثلاثة تحديات تواجه ثلاثة نماذج من نماذج المقاومة في الضفة والقدس وهي:
أولًا، الوصول لقيادة فاعلة ونجاعة في الميدان، وثانيًا النجاة من محاولات الاختراق بأنواعه، وثالثا القدرة على التأقلم لمواجهة الضربات.
أما النموذج المقاوم الفريد، فهو فذٌّ واستثنائي ومنيع حتى من هذه التحديات، فممارسات الاحتلال القمعية من جهة والتعبئة والتوجيه في وسائل الإعلام من جهة أخرى، يكفيان لاستمرار فعالية هذا النموذج.
من الممكن القول بأن مسألة القيادة هي التحدي المركزي والأبرز لنماذج المقاومة المتطورة والمتبلورة في الضفة الغربية والقدس، ولنموذج عرين الأسود في نابلس جبل النار على وجه الخصوص، حيث إن طبيعة هذه التشكيلات ونشأتها قامت من الأسفل إلى الأعلى، فهي نتيجة لاضطرارات وظروف الميدان، ومع ذلك فلا يمكن لهذه النماذج وتحديدا عرين الأسود أن تستمر لفترة طويلة على هذا الشكل، دون قيادة ميدانية قوية وقادرة على فهم ومواجهة التحديات والتهديدات المتزايدة. وقد أدرك الاحتلال وأعوانه ذلك فسعوا وعملوا على القضاء أولا بأول على كل بداية أو احتمالية لنشوء قائد أو مجموعة قيادية ميدانية للعرين، فاعتقل مصعب اشتية في أريحا، ومن قبل تم اغتيال الشهيد إبراهيم النابلسي، ثم تامر الكيلاني ووديع الحوح، وهكذا.
ومن جهة أخرى، تعمل سلطات الاحتلال وحلفاؤها في المنطقة على ضرب المستوى الثاني المكمل والضروري للقيادة الميدانية، من خلال محاولة تحييد قيادة المقاومة المبعدة قسرا عن وطنها، ومعظمها من أسرى محررين في صفقة التبادل عام 2011، لدورهم الفعّال في تعزيز ودعم وتوجيه نماذج المقاومة الأربعة. ومن ذلك، نشر تحقيقات تؤكد "تورطهم" (الأسرى المحررين) في هذه المقاومة. ومن ذلك أيضا، محاولة تشويه دور القيادات وكأنه عبثيٌ لا قيمة له أو تصويره كضار بهذه المقاومة، وشعبنا الفلسطيني أوعى ويدرك مثل هذه السياسات.
أمّا التحدي الثاني، فيتمثل في محاولات الاختراق التي تقوم بها أجهزة أمن الاحتلال وأعوانه من أجل أضعاف هذه النماذج، ومن ذلك الاختراق الأمني وزرع العملاء، ومن ذلك أيضا استمالة بعض النشطاء لترغيب والترهيب أحيانا، الذين هم في طبيعتهم شجعان وبسطاء في آن واحد. وهنا تؤدي أجهزة أمن السلطة دورا بارزا وخطيرا، ويبدو أنها بدأت تحقق نجاحات في هذا السياق. وهنا يبرزُ أيضا أهمية دور القيادة الميدانية الضابطة للأوضاع، وبصورة أقل دور القيادة البعيدة عن الميدان في التوعية والتوجيه وغير ذلك.
التحدي الثالث، هو قدرة هذه التشكيلات على التأقلم لمواجهة ضربات الاحتلال بأجهزته القوية والمتطورة، ومن ذلك الانتقال للتشكيلات الأقرب إلى العلنية إلى نوع آخر أقرب إلى السرية واتخاذ المزيد من التحديات التقليدية والإبداعية، وإلا، فإن مصيرها يكون على المحك وقد تدفع أثمانا باهظة قبل أن تتأقلم بغريزتها لا بفكرها وتخطيطها المسبق. وبالتأكيد، فإن هناك تحديات أخرى متنوعة، ولكن أشرنا إلى أهمها.
تشكل نماذج المقاومة الأربعة في الضفة الغربية والقدس فرصة حقيقة لتطوير ودعم وعودة الشكل المركزي والضروري للمقاومة، وهو الشكل التنظيمي والفعّال، كما أنها تمثل فرصة حقيقة لهدم بعض أهم الحواجز والعقبات المعنوية والمادية التي أقامها الاحتلال وأعوانه في وجه المقاومة الفلسطينية، ومن ثم تدفيع الاحتلال أثمانا باهظة لاعتداءاته المستمرة، ومنها ردع الاستيطان والمستوطنين، كما أنها تشكل فرصة لاستعادة ولتعزيز ولتطوير الوحدة الوطنية في الميدان، ثم على مستوى القيادات العليا. أضف إلى ذلك أن هذه النماذج وتحديدا عرين الأسود، قد تشعل خيال الجيل الفلسطيني الشاب للمزيد من المقاومة المنظمة، وهذا هو الأخطر وفقا للمحلل الاستراتيجي في هآرتس عاموس هارئيل قبل يومين، الذي أكد أن أحد أهم الأسباب إضافة للانتخابات الداخلية للكنيست في سعي المحموم للقضاء على عرين الأسود؛ هو ضرب هذا الجانب المعنوي وكي وعي الفلسطينيين.
ومن المناسب هنا، أن نشير أيضا للفرصة التي صرّح بها رئيس أركان الجيش الاحتلال سابقا غابي إيزنكوت لراديو الجيش قبل أيام، حيث قال: "الموجة الحالية أخطر من سابقتها وتحمل احتماليات تصعيد أوسع من غيرها". وهذا ما تخشاه دولة الاحتلال، وهذا ما يرجوه ويأمله الشعب الفلسطيني وأنصار المقاومة في العالم؛ أن تتطور هذه المقاومة وأن تتجاوز التهديدات والتحديات.
وماذا كالأمل وقودًا لمعركة تحرر الشعوب؟