"نابلس هي الأم، هي أمي وحبيبتي الغالية، لم أحظَ بحنان أمي، ولكنّ نابلس وأهلها عوضوني" هذه الكلمات خطَّها المقاتل وديع الحوح ليُعبّر عن حبه لـ "جبل النار" وأهلها.
تلك الكلمات لم تذهب سُدى، إذ خرج عشرات الآلاف من أبناء نابلس في مشهد مهيب أمس، لتشييع الشهيد وديع الحوح الذي فقد أمه عندما كان طفلًا صغيرًا وفاءً له ولنضاله ومقاومته لقوات الاحتلال الإسرائيلي.
وأظهرت مقاطع فيديو بثّها نشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي دموع الكثير من نساء البلدة القديمة بمدينة نابلس حزنًا على استشهاده، وأخريات أطلقن "الزغاريد" في نظرة الوداع على جثمانه المُكفّن بعلم فلسطين وشعار "عرين الأسود".
إقرأ أيضًا: 6 شهداء في نابلس ورام الله برصاص الاحتلال
قبل ساعات من استشهاد الحوح (31 عامًا) نشرت مجموعة "عرين الأسود" بيانًا قالت فيه: "حان وقت خروج الأسود من عرينها"، فلم يتأخر قائدها، الذي خاض اشتباكه الأخير مع قوة إسرائيلية خاصة استمر لعدة ساعات في بيته بمنطقة "حوش العطعوط" القريب من حارة الياسمينة داخل البلدة القديمة في نابلس.
قبل أن يُنزل المشيعون جثمانه داخل (قبره)، تلا أحد رفاقه وصيته أمام المشيعين قائلًا: "أَوصى وديع أن تعلو صيحات التكبير عندما يوضع جثمانه بالقبر"، فنزل الجثمان تحفُّه صيحات تكبير خرجت من حناجر غاضبة.
في ملف تعريفه على "فيسبوك" يضع وديع عبارة "اللهم قلبًا يليق بلقائك، اللهم أحسن خاتمتنا"، وكأنه كان ينظر لنهاية حكاية كل مقاومٍ ومطارد، حتى نال أعظم ما يتمناه المقاومون وهي "الشهادة".
في المشفى، حُمل وديع نحو ثلاجة الموتى والشهداء، وفي أثناء المسير عادوا به مجددًا لغرف العمليات لإنعاشه، تكرر الأمر مرتين وكأنَّ الناس تتمسك به، لا تريد أن تعود لواقع "الذل والهوان" والحياة التي سبقت تشكيل مجموعة "عرين الأسود".
ورغم أنّ فترة قيادة وديع لها لم تكن طويلة، لكنّ عملياتها وحّدت الشعب الفلسطيني خلفها، وأرعبت المستوطنين في محيط نابلس، وقبل ذلك كان من أبرز المطلوبين لدى الاحتلال، هو ورفاقه الشهداء: إبراهيم النابلسي، ومحمد الدخيل، وأدهم مبروكة، وأشرف المبسلط.
تعرض الحوح لاعتقاله الأول عام 2011، وأمضى ستة أشهر في سجون الاحتلال، ثم اعتُقل للمرة الثانية عام 2018، وتعرض في حينه لتحقيق قاسٍ، وحكم عليه الاحتلال بالسّجن 6 شهور.
تملأ الدموع عينَي عمته، وهي تزفه شهيدًا قائلة: "وديع لم يكن مجرد ابن أخ، فبعد وفاة أمه، كنت أعيش معهم بالبيت، كبر وعاش بالبلدة القديمة، اسأل عنه، سيجيبك الصغير قبل الكبير، كان شابًّا مثل الوردة".
شقيقته التي كسرها الفقد، تمالكت وجعها لتذكر صفاته قائلة: "الكل يعرف أنه رجلٌ، من زينة البلد، كان سندًا لي وللبلد كلها، ستبقى ذكراه لآخر يوم، كانت أمنيتي أن أراه عريسًا، لكنه ذهب عند أمي، هي من ستزفُّه، كان نعم الأخ والصديق، فدى نفسه للوطن، وهو أسد العرين".
كان يرفض الارتباط بالرغم من الضغط عليه من قبل شقيقاته وخالاته، وفي الفترة الأخيرة كان يرفض حتى لقائهنّ، خوفًا أن يضعف ويتراجع عن طريق المقاومة، تروي إحدى خالاته عن آخر اللحظات: "قبل 3 أيام قمنا بزيارته في بيته بالبلدة القديمة لرؤيته والاطمئنان عليه، ولكنه رفض استقبالنا، تحدَّث لنا من النافذة وطلب أن نغادر، حتى لا يهتز قلبه المقبل على الشهادة".
صديقه محمد وابن صفه وبلدته القديمة وأحد أبناء العرين، يعطي لصحيفة "فلسطين" نظرةً أقرب عن شخصية وديع قائلًا: "درس معي بفصلٍ دراسي واحد، وديع شخص واعٍ، صاحب صديقه، خلوق وطيب جدًّا، الناس تحبه، حتى قبل الأمانة التي حملها من بعد استشهاد محمد العزيزي، فوحَّد فلسطين أرضًا وشعبًا نحو هدف واحد، وما فعله لم تفعله قيادات فلسطينية".
يقول: "وضع وديع المالي ممتاز قبل تشكيل أيّ خلية وكان هدفه الجهاد في سبيل الله، وكان بيته الحاضن لكل الشباب في البلدة القديمة، والمكان المستهدف قريب من مكان استشهاد تامر الكيلاني".
ورغم أنّ وديع كان يستطيع بالأموال التي يملكها أن يصبح رجل أعمال، والكلام لصديقه، لكنه ترك كل شيء "واختار الجهاد في سبيل الله وجاهد بكل ما يملك (..) كان لديه ورشة تصنيع أسلحة "مخرطة" وجمَّع ثروة منها حتى يدعم المقاومة ويصنع جيلًا جديدًا يدافع عن أرضه ومقدساته"، وفي هذا الطريق الذي بدأ برسمه قبل سنوات تعرض للإصابة عام 2016 من قِبل جيش الاحتلال.
عايش صديقه لحظاتِ الاشتباك الأخيرة، يروي: "لم يستطيعوا الدخول إلى منزله، فاستخدم الاحتلال طائرة "الدرون" في الاغتيال، وقصف البيت، بقي وديع يقاوم لآخر نفس، سمعنا صراخ الجنود، حتى إنّ قوات الاحتلال استهدفت أنابيب المياه لغسل دمائهم".
عاش وديع مطاردًا لكنه لم يخشَ الموت، رفض تسليم سلاح "عرين الأسود" مقابل عروض ومغريات عديدة منها الانضمام للأجهزة الأمنية والحصول على عفو من الاحتلال بعدم الملاحقة، فاستمر في طريق رسمه بنار بندقيته، وغرزت "عرين الأسود" مخالبها في قلوب المستوطنين وجنود الاحتلال، مدركًا أنّ "الشجاع يموت مرةً" واحدةً، أما جنود الاحتلال فيموتون ألف مرةٍ، لأنهم يتوقعون في كل يوم ولحظة وساعة خروج رفاق وديع.