لمى خاطر
كما كان متوقّعًا، بعد نحو شهر من تصديق محمود عباس على قانون (الجرائم الإلكترونية) دون الرجوع إلى المجلس التشريعي أو حتى مؤسسات المجتمع المدني ونقابة الصحفيين، كان أول من اصطلى بناره مجموعة كبيرة من الصحفيين في الضفة الغربية، يعملون في قنوات ومواقع إخبارية متنوعة، ويربط بينهم أنهم أصحاب أجندات نظيفة منحازة للقضايا الوطنية وعلى رأسها المقاومة، وأنهم ليسوا من أبواق السلطة وجوقتها المصفقة لكل سياساتها.
تفنّنت الأجهزة الأمنية التي اعتقلت الصحفيين في تطريز التهم لهم، حتى إذا ما اطّلع المرء على لائحة اتهام بعضهم ظنّ أنها خرجت من دوائر الشاباك الصهيوني وليس من محاكم السلطة الفلسطينية، فالعمل مع قناة الأقصى يعدّ جريمة كونها ممنوعة من العمل في (دولة فلسطين)، والعمل لصالح مواقع إلكترونية تابعة لحماس جريمة أخرى لأن الحركة (خارجة عن القانون) وفق تعبير لائحة الاتهام الموجهة للصحفي قتيبة قاسم، رغم أنه كان قد جرى توافق قبل عدة سنوات بين السلطة في الضفة وحماس في غزة يقضي بالسماح لفضائية الأقصى بالعمل في الضفة مقابل السماح لتلفزيون فلسطين بالعمل في غزة، إضافة إلى تفاهمات إعلامية أخرى، ولكن من قال إن هذه السلطة تحترم عهدًا سبق أن وقعته أو كلمة توافقت عليها مع جهة فلسطينية ما؟!
القانون الجديد لا يعبّر عن اسمه المضلل، فليس المقصود بالجرائم الإلكترونية تلك المتعلقة بالابتزاز واختراق حسابات الآخرين ونشر المواد الإباحية أو ترويجها، بل إن القانون نفسه يتيح للسلطة أن تنتهك خصوصيات الناس الإلكترونية بالقدر الذي تريد، إنما بات واضحًا أنه سيكون موجهًا لشرعنة تكميم الأفواه وإجراء محاكمات لأصحاب الرأي وإدانة الإعلاميين واعتقالهم، وخصوصًا من تعدّهم السلطة خصومًا سياسيين أو معارضين. ولكن علينا أن نتذكر هنا أن الاحتلال أيضًا بات يحاكم صحفيين وإعلاميين على الخلفيات ذاتها وبدعوى تحريضهم على الاحتلال أو العمل مع منابر إعلامية يصنفها الاحتلال معادية له، بمعنى أن واقع الحريات في الضفة سيزداد رداءة وستتقلّص هوامشه إلى الحد الأدنى إن كان سيظلّ يعايش استهدافًا مزدوجًا من السلطة والاحتلال.
ومن هنا تبرز أهمية العمل على إبطال قانون الجرائم الجديد ذي الاسم المضلل، لأنه سيظلّ وصفة للترهيب وتقييد حرية الرأي والانتقاد، وسيعطي الأذرع الأمنية والسلطة السياسية المسوّغ (القانوني) لتكريس صحافة اللون الواحد، وتغييب ثقافة الاعتراض والاحتجاج، وإلزام الجمهور بخيارات محددة بين التصفيق للسلطة أو التعرض للاعتقال والمحاكمة في حال انتقادها، إذ ليس هناك ما يضمن ألا تتسع مساحة الانتهاكات على خلفية التعبير عن الرأي بتوظيف بنود ذلك القانون لمزيد من القمع والبطش ضد معارضي السلطة ومنتقدي منهجها وخطها السياسي.
حتى الآن، لا يبدو أن الاحتجاج على القانون والاعتقالات الأخيرة للصحفيين قد بلغ مرحلة الضغط الحقيقي على السلطة لإلزامها بالتراجع عن القانون، وهناك كثيرون من داخل الجسم الصحفي وخارجه يحجمون عن التضامن مع شريحة معينة من معتقلي الرأي في الضفة خوفًا من اتهامهم بالانحياز إلى حماس ومعتقليها، لكن ما عليهم إدراكه اليوم أنهم حين يتضامون مع حالات الاعتقال أو يحتجون على انتهاكات السلطة فهم إنما يتضامنون مع أنفسهم بشكل مسبق، لأنهم قد يصبحون يومًا ضحية لهذا القانون وتلك العربدة باسمه، فكما تدين تدان، والتهاون في شأن انتهاكات حرية الرأي اليوم سيجرّئ السلطة على ممارسة المزيد منها حتى تصبح شيئًا عاديًا، فيغدو الاحتجاج عليها غير مجدٍ، وتتناقص مساحة الحرية تلقائيًا كنتيجة طبيعية لتقبّل المساس بها أو الصمت عليه، أو تكييف الرأي وفقًا لمقاساتها الجديدة التي تفرضها وتحددها السلطة بقوانينها المستحدثة الجائرة.