فلسطين أون لاين

تقرير تسليم بندقيته لمقاوم آخر ودفنه بمجاورة رفيقه "الحصري".. وصية المشتبك "ضبايا"

...
الشهيد متين ضبايا - أرشيف
جنين-غزة/ يحيى اليعقوبي:

بعد فجر الجمعة الماضية، ظلَّ فايق ضبايا يتابع أخبار اقتحام قوات الاحتلال الإسرائيلي مخيم جنين شمالي الضفة الغربية المحتلة، وهو يدرك أن ابنه "متين" خرج قبل قليل للتصدي للاقتحام وإيقاف تسلل القوات الخاصة، تحفه دعوات والده كما في كل مرة، إلى أن وصلت عقارب الساعة في دورانها عند السابعة، حيث بدأت أصوات الرصاص الكثيف والانفجارات الناجمة عن ضراوة الاشتباكات تدوي في المخيم، ما أثار في قلبه القلق.

أطلت صورة مقاوم ممدد على الأرض والدم ينزف منه وملامحه غير واضحة وهو يتصفح تطبيق "تليجرام"، إلا أن هناك علامات أرشدت ابنته لهوية "المقاوم المجهول" وهي تناظر الأخبار معه، ارتجف صوتها وطلبت من والدها العودة للصورة محدقة بكل اتساع عينيها، وصرخت: "هذا متين"، مشيرة إلى علامتين: "هذا بوته، وبنطاله".

تفاعل مع المشهد بتلقائية "الله يرحمه" كما يفعل مع أي شهيد، قبل أن يستيقظ على وقع صدمة رحيل ابنه، وفي سماء جنين ارتفعت أصوات مآذن المساجد وهي تنعى الشهداء.

رغم أن المشهد يوحي باستشهاد "متين"، إلا أن والده تعلق ببصيص أملٍ ضئيل أن يكون حيا، اتصل بالمشفى عدة مرات، فلم يحصل على إجابة نهائية بشأن مصيره، ليخرج من البيت بين زقاق المخيم وخلال الاشتباكات وهمه الوحيد ابنه، ليجده ساكنًا بلا روح في ثلاجات الموتى.

لا تفارقه البندقية

وهو يقف أمام جثة ابنه، استحضر لحظاته الأخيرة، ابتسامته وهو يداعب أبناء شقيقه الأكبر في جلسة عائلية احتسى فيها كوبا من الشاي، والبارودة ترقد في حضنه متأهبًا لأي إشارة عن اقتحام لقوات الاحتلال.

لطالما طلب "متين" من أمه ألا تبكيه إذا ما عاد إليها شهيدا، وأن تستقبله بالزغاريد، لكن الأم المكلومة لم تستطع الإيفاء بوعدها، فقد أنستها صدمة الفقد كل شيء، انهارت ودموعها ترسم خطا من الحزن لم يتوقف عن الجريان.

"كان ابني رفيق الشهيد عبد الله الحصري الذي استشهد في مارس/ آذار الماضي وكان يقاوم بجانبه، قال لي بعد عودته حزينًا من أثر الفقد: ربنا لم يخترني بعد، ثم استشهد بعد ذلك رفيقه داود الزبيدي، فجاءني حزينًا وقال: ربنا لسة ما اختارني، تعلق بالشهادة، جريء ينزل للمواجهات بجرأة"، خرجت كلمات والده لصحيفة "فلسطين" مثقلة بالوجع.

كثف جيش الاحتلال اقتحامه لمدينة جنين خلال العام الجاري، ولا يتوقف المخيم عن توديع الشهداء، ولا تهدأ أخبار الاشتباكات، وفي كل اقتحام يفارق النوم عيون "ضبايا" الأب إلى حين عودة نجله إليه حيَّا، ليقص عليه حكاية الاشتباك وكيف تصدوا لقوات الاحتلال.

تعلق بالشهادة

في إحدى المرات غلبه النعاس لكن حدسا داخليا وخز قلبه وأيقظه، مستذكرًا: "اتصلت بمتين فأخبرني أنه في مأمن عن قوات الاحتلال، ولم يخبرني أن الاشتباكات عنيفة، لم تمر أكثر من ساعة حتى وصلني خبر إصابته وشقيقه إسلام، حتى إنه ظل يعاني أثر إصابته وتتثاقل خطواته حتى استشهاده".

قبل الإصابة اعتقل الاحتلال متين أربعة أشهر في أثناء عمله بالداخل المحتل، بعدما عثروا على رصاصات في غرفته "منعني الاحتلال من زيارته إلا خلال جلسات المحاكمة، وبعد تحرره قرر عدم العودة للعمل".

ذاكرة والده شاهدة على مغريات كثيرة قدمها لابنه، قائلا وهو يلقي على روحه السلام "عرضت عليه بناء شقة له وتزويجه، لكنه رفض وقال لي: أريد الزواج في الجنة، زاد حبه للشهادة مع استشهاد رفيقه الحصري، كان دائم الزيارة لقبره، حتى إنه حفر قبرًا بجواره وأوصى بدفنه فيه، وبالفعل نفذنا وصيته، وأوصى أن يستلم بندقيته مقاومٌ آخر لتستمر جذوة المقاومة".