عندما أصدرت محكمةُ الاحتلال حكم المؤبد مدى الحياة، ودوَّن القاضي الإسرائيلي حكمه وكتب الرقم "99999" بحق هارون ناصر الدين، كان يُعتقد أن الدنيا ألقت سوادها الحالك على حياة الأسير ولم يعد يرى النور أو يحلم به أمام حكم طويل سيأكل كل حياته وسيكمل جسده الحكم حتى بعد استشهاده في مقابر الأرقام.
لكن لم تأكل السجون أكثر من عشرين عامًا أمضاها ناصر الدين خلف القضبان، قابلها بقلبٍ صابرٍ، لم يقطع الحكم حبال الأمل، بأن فجر الحرية قادم، وأن حكم المؤبد قد يكسر.
مرَّت تلك السنوات على ناصر الدين بحلوها ومرها، إلى أن أعلنت المقاومة أسر الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط عام 2006، معه عم الفرح داخل السجون ومن العدم بعث الأمل داخل الأسرى، وبدأ حلم الحرية يصبح أمرًا واقعيًّا يمكن التفكير به، أو "أصبح أقرب للحقيقة".
عاد ناصر الدين للحياة في إثر تحرره في صفقة "وفاء الأحرار"، التي حررت بموجبها المقاومة الفلسطينية 1027 أسيرًا وأسيرة فلسطينية، منهم 450 أسيرًا من ذوي الأحكام العالية (المؤبدات)، كبله أحد أحكامها، ونفذت في 18 تشرين الأول (أكتوبر) 2011م.
كما حررت المقاومة عام 2009 بموجب "صفقة الحرائر" 20 أسيرة وثلاثة أسرى من الجولان.
اختصرت الصفقة الزمن في حياة ناصر الدين، وقربته إلى أحلامٍ كانت بعيدة المنال، هو ذاته يقر بذلك وهو يفتح قلبه لصحيفة "فلسطين"، ويأتي صوته من تركيا التي أبعد إليها، يرسل تحياته لأهل غزة قائلًا: "الصفقة أحدثت تغييرًا جذريًّا في حياتي، حتى قبل إتمامها ومن لحظة أسر الجندي "شاليط"، إلى أن تمت الحرية، عشنا فرحةً لا يمكن وصفها، وكانت من أجمل الأعراس في فلسطين".
مرت 11 عامًا، منذ إبعاد نصر الدين إلى تركيا، ولكن على الرغم من بعد المسافات عن وطنه فإنه "يشعر أنه بين أهله هناك"، تحط رحال ذكرياته عند أول يوم هبطت الطائرة فيقول: "عندما نزلت من الطائرة، سجدت على تراب تركيا وكأنني ألمس تراب فلسطين".
تزوج، وبعد عام من الزواج، أنار بيته بعصفورين صغيرين إذ رزق بتوأم "محمد ومريم"، لأول مرة بعد أكثر من عشرين عامًا على الأسر يسمع صوتًا لم يأتِه حتى في الأحلام داخل السجن، يراه حقيقة أمام عينه، يمسك قطعة منه، يحتضنه، يلاعبه، يذوق طعم الأبوة، يكبران أمام ناظريه.
"لن يشعر بفرحة الحرية إلا من جرب مرارة الأسر"، هذه المقولة عاشها ناصر الدين وبقية من عاشوا الحرية، ثم جاء ابنه الثالث سفيان والأخير حمل اسم شقيق والده الشهيد.
سبق فرحة الأولاد، فرحة الحج إلى بيت الله الحرام، ثم انخرط في الحياة ولم يكن صعبًا عليه ذلك، إذ يقول: "الأسرى يتابعون تطورات الحياة إذ إن التحصيل العلمي ومتابعة الأحداث السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية داخل السجون سهلت هذا الاندماج، فحياتي بالسجن كانت كلها دراسة وتحصيلًا، وعدنا للحياة التي اقتطع منها الأسر عشرين سنةً".
ناصر الدين الذي بدأ حياته مقاومًا للاحتلال بالحجارة، ثم حكم المؤبد بسبب تنفيذه عمليات ضد الاحتلال، "ما زال حتى اليوم يواصل العمل لخدمة فلسطين والأقصى، ويشغل منصب رئيس ملف القدس في حركة حماس، وجل وقته يمضيه نصرة للأقصى والقدس".
عمر جديد
"أستطيع القول: الصفقة منحتنا ميلادًا وعمرًا جديدًا، تخيل أن إنسانًا تكبله أحكامٌ عالية داخل السجن، لا يوجد أمل بالإفراج، حياة صعبة، السجان يتجبر فيك ليل نهار، وبين عشية وضحاها تتم الصفقة وتجد نفسك تخرج لحياة وعمر جديد".. هكذا اختصرت الصفقة الزمن في حياة المحرر ناهد الفاخوري (45 عامًا) والمبعد من الخليل إلى غزة.
ما أعطى نشوة حقيقية للإفراج، هي طريقة خروج الأسرى، "فأصبح السجانون مجبرين على إطلاق سراحنا، فك القيود، فتح الأبواب، كانوا يحرصون على إخراجنا دون توترات، وبناء على تعليمات وصلت إليهم، عندما رأيت السجان بهذه الحالة، رأيت الهزيمة في عيونهم، وأنه كيف يطلق سراحنا رغم أنوفهم".
كان التحدي الأول أمام الفاخوري هو بعده عن الخليل رغم احتضان أهل غزة له، لكن قلبه بقي معلقًا حيث ترعرع ونشأ ويوجد والداه وإخوته، خاصة أنهم لم يستطيعوا القدوم لزيارته، إلا عمه عندما زاره في يوم عقد قرانه (خطوبة)، يبتسم صوته وهو يستعيد الموقف: "كنت في حيرة بين استقبال عمي الذي يراني لأول مرة، وضيوفي الذين جاؤوا لمشاركتي فرحة الإشهار".
بعد نحو عام من الزواج، كان على موعدٍ مع فرحة لا تقل عن شعور الإفراج، حينما وضعت الممرضة مولوده الأول بين يديه، خفق قلبه وحلق عاليًا في سماء الفرح ثم عاد مكانه.
صوت صرخة طفله الأول هزت جدران قلبه، شعر بنفس شعور شخصٍ تأخر في الإنجاب، مشهد ما زالت ذاكرته تحتفظ به: "شعور الطفل الأول جميل لا يوصف، تشعر بعاطفة أكثر ربما من فرحة الإفراج نفسه، بأن تخرج من السجن وبعد مرور عام تحمل طفلك، شعور الأبوة جميل".
كان الاحتلال قد أسر الفاخوري في عام 2002 وحكم عليه بالسجن 22 عامًا أمضى منها تسع سنوات، قبل الإفراج عنه في الصفقة التي رعتها مصر ونفذت في 18 تشرين الأول (أكتوبر) 2011م.
الفاخوري الذي أبعد عن جذوره الأصلية في مدينة الخليل تزوج في غزة، ورزق أربعة أبناء: عبد الرؤوف (10 أعوام)، وهدى التي طرقت عامها التاسع، ووسيم (7 أعوام)، وأنس الذي لم يتجاوز عامه الرابع بعد.
رغم جمال الحياة في الخارج، فإن غصة البعد عن الخليل، أصابت قلوب أبنائهم الذين لم يجدوا أهل والدهم حولهم، لكن من جمال النعم عليه، أن أبناءه أنفسهم يتحدثون بلهجة أهل الخليل بطلاقة، وهذا ما يشعره بالأنس، يتحرك صوته معبرًا عن سعادته: "عندما أنصت إليهم وأسمع لهجة أهل الخليل، أشعر أني في الخليل نفسها وهذا يعطيني معنوية وشعورا جميلا".
أجمل البشريات
تردد مهدي التميمي كثيرًا قبل أن يسأل أحد ممثلي الأسرى بالسجن، إن كان اسمه من المفرج عنهم أم لا، خشية أن يكون ممن لا تشملهم الصفقة، لكن هذا الصمت والصبر لم يستمر طويلاً، كل أسير كان يريد عيش فرحة الحرية قبل أوانها، مدركًا أن الفرح عندما يأتي بغير موعده يكون جميلاً، خاصةً لأسير محكوم بالسجن 21 عامًا أمضى منها تسع سنوات ومتبقٍ أحد عشر عامًا، وهي مدة طويلة كان ينظر إليها التميمي.
"بشرت أني مبعد لغزة لثلاث سنوات، وغمرت قلبي فرحة الحرية، رغم أن إدارة سلطات سجون الاحتلال لم تخبرنا، وكانت تكتفي بالمناداة على أسمائنا لنقلنا لسجون قريبة من غزة، لكننا كنا نعرف أننا محررون"، تفرد ملامح التميمي خطًا من الفرح وهو يدخل للسجن من بوابة الذكريات في مستهل حديثه مع صحيفة "فلسطين".
لو لم يتحرر التميمي في الصفقة، فكان عليه الانتظار حتى انتهاء حكمه في مايو/ أيار 2023، أي أن عليه الانتظار عدة شهور ليبدأ غمار الحياة، لكن الصفقة التي اختصرت عليه الزمن وحررته قبل أحد عشر عامًا جعلته يحقق أحلامًا لم تكن تخطر على باله في السجن، فالآن لديه أربعة أولاد، منة الله (9 سنوات)، ويحيى (7 سنوات)، وليلى (4 سنوات)، والرضيع تاليا.
ترقد ابتسامةٌ عريضة على شفتيه وهو يستعرض تأثير الصفقة في حياته "عندما تريد المقارنة، فالإنسان داخل السجن يمضي حياته بين الأسرى، لكن عندما يتحرر يشعر بقسوة الأسر وأنها أكلت من عمره، خاصة عندما تخرج وتجد من كان عمره عامين لحظة الأسر يبلغ 12 عامًا، ومن كان عمره عشر سنوات أصبح شابًّا يبلغ من العمر عشرين عامًا".
لم ينسَ التميمي مشهد دخول حافلات الأسرى لقطاع غزة، لحظة ملامسة جبهته تراب غزة عندما سجدوا يحمدون المولى عز وجل على نعمة الحرية، وعندما سارت الحافلات في شوارع القطاع، يستقبلهم جدار طويل من المواطنين على جانبي الطريق، يرحبون بهم، ويلقون عليهم الورود، وعاشت غزة يومها "عرسًا تاريخيًا" لم تعِشه من قبل.
حينما يعود من عمله تركض إليه طفلته الصغيرة فاردة ذراعيها في أجمل استقبال، في أثناء دخوله المنزل، فيجثو على ركبتيه ليضمها كأنما ضم العالم كله، ويرفعها إلى الأعلى، ثم يجد ليلى تتشبث بساقيه فيحملها كذلك، ويمسح بيده رأس منة الله ويحيى بعد أن يقبلا يده، في مشهد تتجسد فيه الأبوة بأجمل تعابيرها، واللمة الأسرية في أبهى شكلٍ ومنظرٍ كأي أب متشوق إلى العودة من العمل للمنزل.
إضافة لذلك، أكمل التميمي دراسته، وحصل على بكالوريوس صحافة وإعلام، وحصل على ماجستير "دراسات شرق أوسطية"، وهو ما زال عمره الآن 48 عامًا ويتطلع لدراسة الدكتوراة، يدرك أنه كان سيتأخر عقدًا من الزمن لو بقي في الأسر، مسجلاً امتنانه الكبير للمقاومة التي أخرجت الأسرى من عالم المنسيين، وأخرجتهم من قبور الأحياء لصخب الحياة.