فلسطين أون لاين

حياةٌ من المطاردة أحالها "الحب والفخر" لـ"حلوٍ" في نظر "إيمان"

الشهيد أحمد الجعبري.. سنواتٌ من العمل الدؤوب لتحرير الأسرى توّجها بـ"وفاء الأحرار"

...
أحمد-الجعبري
غزة / فاطمة الزهراء العويني:

توتر وقلق ودعاء ساد بيت الشهيد أحمد الجعبري ليلة أسر المقاومة الجندي جلعاد شاليط، فلم ينقطع الجعبري عن قيام الليل والتبتل بالدعاء لله بتوفيق المقاومة -أكثر من المعتاد- ما أثار انتباه زوجته إيمان التي حمل لها خبر أسر الجندي الإسرائيلي الإجابة للتساؤلات التي اعتملت في نفسها طوال الليل.

فقد انفلق الصبح عن خبرٍ أدخل الفرح إلى قلوب أبناء الشعب الفلسطيني جميعًا، وحمل البشارة بقرب تفريج كرب الأسرى الفلسطينيين، إذ تقول أرملة الشهيد الجعبري: "لقد كانت فرحته بهذا الأمر لا تعادلها فرحة، لقد اصطحبني إلى بيت أهلي واحتفلنا معًا في يومٍ كان من أجمل حياتنا".

ولكن سرعان ما صاحب هذه البهجة تحوُّل في حياة زوجته "إيمان حسين" فقد اضطُر الجعبري المعروف بحسّه الأمني للاختفاء عن الأنظار، فقد كان يدرك أن دولة الاحتلال الإسرائيلي لن تترك المسؤول عن هذه العملية البطولية التي هزت صورة جيشها "الذي لا يقهر".

فاختفى الجعبري 45 يومًا كاملة قضتها "إيمان" على أعصابها فقد كانت حديثة عهدٍ بالزواج بأبي محمد -اقترنت به عام 2005-، وكانت ترافقه في جميع الأماكن التي يوجد فيها حتى في لحظات اختفائه عن أنظار الجميع.

اقرأ أيضا: أحمد الجعبري.. الرجل الذي زلزل كيان (إسرائيل)

لكن كانت هذه المرة الأولى التي يختفي فيها الجعبري عن ناظري "إيمان" دون أنْ يتواصل معها بتاتًا، حيث تقول: "كانت أيامًا ثقيلة جدًّا، وكنتُ في غاية السعادة عندما انقضت حالة الطوارئ والتقيتُ بأبي محمد مجددًا".

"كان لتلك الحادثة ما بعدها، إذْ أخذت المفاوضات (غير المباشرة) مع (إسرائيل) بخصوص صفقة تبادل الأسرى جهدًا ووقتًا كبيرين من حياة الجعبري، فالمفاوضات التي استمرت سنوات كانت جلّ ما يركز عليه، وأصبح يغيب بالأسابيع والأشهر، يفاوض ويناور، كنت لا أسأله عن تفاصيل عمله ولا يبادر هو أيضاً بالحديث، فقد كانت تفاصيل عمله الحركي والعسكري أسرارًا عنده، لا يبوح بها لأحدٍ مهما كان قريبًا منه"، تقول إيمان.

وتخللت تلك المفاوضات حرب إسرائيلية عدوانية على غزة عام 2008-2009 صدّتها المقاومة بـ"معركة الفرقان" حيث اختفى فيها الجعبري مجددًا عن الأنظار، واستشهد خلالها شقيق إيمان "أحمد الذي كان مرافقًا الجعبري"، وتسلل لها خبر أنّ المكان الذي كان فيه زوجها قد تعرّض لقصف الاحتلال فانقسم قلبها بين الحزن على فراق أخيها الشهيد، والقلق على مصير زوجها.

أنسانا مر الفراق

وما إن انجلى غبار الحرب عن غزة حتى فوجئت إيمان وذووها بأبي محمد يأتي إليهم ماشيًا، حيث تقول: "كانت هذه اللحظة التي أنستنا مُر فراق أخي، وأدخلت البهجة على قلوبنا، فقد كان أهلي يحبونه حُبًّا جمًّا فكان لسان حالهم يقول إنهم لا ضير لديهم إنْ قدموا كل أبنائهم في سبيل حمايته، فقد تعرّض المكان الذي كان يحتمي فيه لقصف مباشر دون أن تدرك قوات الاحتلال أنه موجود بداخله وإلا كانت قد حولته إلى رماد".

وبعد انتهاء العدوان على غزة، عاد الحديث عن صفقة تبادل يلوح في الأفق، ولم يكن الجعبري يفصح عن شيء مما يدور، لكن حدس المرأة وشعورها بزوجها كان ينبئ إيمان بما يحدث، فتشعر بتعثُّر المفاوضات من شروده وانشغاله، في حين انتابته فرحة كبيرة وبدت البهجة عليه عندما قاربت الصفقة على التمام، " فهذا الحلم الذي طالما راوده، وهو أن يذوق جميع الأسرى طعم الحرية كما ذاقها هو عندما تحرر من سجون الاحتلال".

وعندما بدأت تتسرب الأخبار بقرب إتمام الصفقة، جاءت لـ"إيمان" شقيقة أحد الأسرى -الذين كان يروج الإعلام العبري بأن الاحتلال يرفض الإفراج عنهم قطعيًّا- تطلب منها أنْ تسأل الجعبري علّها تجد عنده ما يُطمئن قلبها، فكان لها ما أرادت إذ طلب الجعبري من زوجته أن تؤكد لشقيقة هذا الأسير بأن شقيقها من ضمن المفرج عنهم، ليدخل الفرح على قلوبهم.

وفي نهار إتمام الصفقة كان الأمر ليس عاديًّا بالنسبة للشهيد الجعبري، الذي استيقظ مبكرًا وأخذ يتجهز لليوم الموعود بفرحٍ كبير يخالطه القلق من غدر الاحتلال.

ساعات قليلة وأخذت "إيمان" تتابع كغيرها من أبناء شعبنا اللحظات التاريخية لصفقة التبادل التي حملت ظهورًا هو الأول من نوعه لزوجها على وسائل الإعلام وهو يمسك يد الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط.

تسلل الفخر الشديد إلى فؤادها المخلوط بالخوف على زوجها الذي انقبض قلبها من انتشار صورته خشيةً على حياته من غدر الاحتلال، تقول: "لشدة الفرح الذي عاشه أبناء شعبنا في ذلك اليوم، شعرتُ برغبة بأن أنادي بمكبرات الصوت أنني زوجة هذا الرجل العظيم الذي وصل وإخوانه الليل بالنهار لإتمام هذه الصفقة المشرفة".

ولم يغادر القلق قلب "إيمان" على حياة زوجها بعد الصفقة، لكنها لم تتوقع أنْ يكون الفراق بهذه السرعة، فلم ينقضِ عام آخر حتى تعرّض لجريمة اغتيال ارتقى في إثرها شهيدًا، ما شكلّ صدمةً لزوجته لم تُفق منها حتى اليوم، حيث تقول: "لقد كان نِعم الزوج والأخ والحبيب، كنتُ أشعر في وجوده بأنني قد ملكتُ الدنيا بأكملها".

فرغم الحياة الصعبة من وجهة نظر "المقربين" من إيمان والملغمة بالخطر إلى جوار رجلٍ كان محط استهداف الاحتلال وعاش أغلب حياته مطاردًا، فإن هذه الحياة كانت بالنسبة لها هي الأجمل على الإطلاق، وتشير إلى أنه كان "يعوضها بعطفه وحنانه ومعاملته الحسنة عن الدنيا وما فيها".

مطاردة بطعم الحب

وتضيف: "لم أشعر يومًا بالضيق أو التذمر وأنا أتنقل معه من بيتٍ لآخر، عندما كنتُ أضطر للانقطاع عن الدنيا بأكملها بما فيها أهلي، وأغلق هاتفي، حتى شبابيك منزلي في البيوت التي كان يستأجرها بأسماءٍ مستعارة، كي لا يلمحنا أحد أو تتعرف إليّ جارة، فقد كان وجوده معي هو الأُنس كله".

وتستدرك قائلة: "بل كنتُ أنزعج إذا ما انقطع الاتصال به يومًا لصعوبة الظروف الأمنية، وبمجرد إرساله إحدى رسائلنا المشفرة بأنه قد حان وقت اللقاء مجددًا، تعود لي الحياة من جديد (...) فآخذ احتياطاتي الأمنية التي اكتسبتها من حياتي معه، فأغيّر طريقة لباسي وغيرها من الأمور، وأذهب إلى المكان الذي يحدده لي".

وكان الجعبري مراعيًا جدًا لشعور زوجته التي لم تكن قادرة كغيرها من النساء على الخروج مع زوجها للأماكن العامة أو لزيارات الأهل والأقارب، أو حتى أن تفصح عن اسم وشخصية زوجها لغير المقربين، فلا يترك فرصة تسنح له حتى ينظم لها نزهاتٍ خاصة ترفه بها عن نفسها.

والآن، أكثر ما يؤلم "إيمان" أن أبناءها الخمسة حُرموا الحياة في كنف أبيهم الحاني الذي كان يعلق آمالًا كبيرة عليهم ويفرح أشد الفرح كلما أخبرته بحملها، فقد أسمى ابنهما البكر حسينًا "تيمّنًا باسم شقيقه الشهيد حسين" والثاني علاء "تيمّنًا باسم صديقه المقرب الشهيد علاء الشريف" فقد كانت حادثة اغتيالهما وعددٌ آخر من أقارب الجعبري وأصدقائه علامة فارقة في حياته فقد فيها عددًا من المقربين منه، لكن إيمانه بأن طريق الجهاد مليءٌ بالأشواك جعله يقف على قدميه مجددًا، فكان تسمية ابنيْه على اسميهما بنظره أقل لفتة وفاءٍ يمكن أن يقدمها لهما.

وتعقب إيمان بالقول:" لكنه ترك لي الذكرى واللحظات الجميلة التي لن أنساها ما حييتُ، فقد مرت سبع سنواتٍ بقربه كأنها سبع ثوانٍ، بينما يمر اليوم في فراقه وكأنه ألف يوم، وعزائي أنه ترك لأولاده سيرة حسنة ومجدًا يرفعون به رأسهم للأبد".