الزيارة الرسمية التي قام بها أمين سر منظمة التحرير الفلسطينية ووزير الشؤون المدنية حسين الشيخ إلى الولايات المتحدة الأمريكية مؤخرًا، والتقائه مع مسؤولي الإدارة الأمريكية، تأتي في سياق ترتيب خلافة محمود عباس، والترويج السياسي للشيخ باعتباره خليفة عباس في قيادة الفلسطينيين، وتوفير الشرعية التي يحتاجها الرجل لتمثيل الفلسطينيين أمام المحافل الدولية والأممية.
لا شك أن تمرير خلافة محمود عباس بهدوء يعد هدفًا للاحتلال، الذي لا تخفي أجهزته الأمنية دعمها لحسين الشيخ، وترى فيه ضامنًا لاستمرار نهج التنسيق الأمني الذي يوفر الهدوء الميداني المطلوب إسرائيليًّا لاستمرار التوسع الاستيطاني في الضفة المحتلة.
محليًّا نظم رئيس حكومة رام الله محمد اشتية زيارة عزاء خاطفة لأهالي شهداء جنين، ضمن جهود تفاوضية ناعمة مع مقاوميها، لعل قيادة السلطة تظفر بسيطرة شكلية على مخيم جنين، أو هدوء نسبي وفق اتفاق غير مكتوب مع أصحاب القرار الميداني من المقاومين، يضمن تمرير خلافة عباس دون حدوث فوضى سياسية، أو أحداث أمنية تؤثر في الانتقال الهادئ لصلاحيات الرجل.
لا شك أن قيادة السلطة اليوم تسابق الزمن في محاولة مستميتة لاستعادة فرض السيطرة الأمنية على الشارع الفلسطيني بعد سلسلة من الأزمات السياسية والأمنية التي ضربت أركان السلطة ومشروعها السياسي في الضفة مؤخرًا، مع تنامي ظاهرة المقاومة المسلحة شمال الضفة لا سيّما محافظتي نابلس وجنين التي أضحت أجهزة أمن السلطة غير قادرة عمليًّا على بسط سيطرتها الميدانية على كامل مخيماتها وبلداتها في الآونة الأخيرة.
ورغم تنكر حكومات الاحتلال لعملية التسوية، وإعلانها مرارًا عدم وجود شريك فلسطيني، واستخفافها بسيادة السلطة على مدن وبلدات الضفة المحتلة، وتبديدها الأمل لدى الشعب الفلسطيني بإقامة دولته الفلسطينية المستقلة، إلا أن التيار الذي يقود السلطة الفلسطينية يتساوق عمليًّا مع أطماع الاحتلال بتحويل أجهزة الأمن الفلسطينية في الضفة إلى وكيل أمني يخدم مصالح الاحتلال ويوفر الحماية لمستوطنيه دون تحقيق إنجازات سياسية ذات جدوى للشعب الفلسطيني.
الطامة الكبرى أن بعض قادة السلطة وفي مقدمتهم حسين الشيخ الخليفة المحتمل لعباس وفق الرؤية الإسرائيلية الأمريكية باتوا يؤمنون أن التعاون والتنسيق الأمني مع الاحتلال يوفر ضمانًا سياسيًّا لبقاء كينونة السلطة الفلسطينية ومؤسساتها، ويضمن استمرار سيطرة أجهزتها الأمنية على الضفة التي باتت مدنها وبلداتها عبارة عن كانتونات تحيط بها عشرات المستوطنات الإسرائيلية، وتحاصرها مئات الحواجز العسكرية التي تُحصِي أنفاس الفلسطينيين، وتعدّ تحركاتهم اليومية، لتسمح وتمنع مرور ما تشاء من الاحتياجات المعيشية للفلسطينيين المحاصَرين في مدن وبلدات ومخيمات الضفة المحتلة.
نظرة ثاقبة لواقع السلطة اليوم تؤكد أن الاقتحامات التي يقوم بها جيش الاحتلال على مدار الساعة في مدن وبلدات الضفة، وتكرار جرائمه بإعدام الفلسطينيين العزّل على حواجز الموت، واغتيال المقاومين خارج إطار القانون عبر فرق المستعربين، وتصاعد اعتداءات مستوطنيه على بيوت وممتلكات الفلسطينيين، وتكثيف اقتحامات للمسجد الأقصى، والمحاولات المحمومة لتهويد القدس، تمثّل جميعها معاول هدم تقضم من الكينونة السياسية للسلطة الفلسطينية، وتُضعف قدرتها على توفير الحد الأدنى من الحماية للشعب الفلسطيني، الأمر الذي اتضح جليًّا مع إقدام محمود عباس في خطابه الأممي الشهر الماضي على استجداء الحماية الدولية للفلسطينيين من فوق منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة دون أن نلحظ تعاطفًا دوليًّا أو آذانًا مصغية لمعاناة الفلسطينيين.
واليوم في ظل الجهود التي تبذلها قيادة السلطة لتهدئة الشارع الفلسطيني، بهدف التمرير الهادئ لخلافة محمود عباس، وتكثيفها الضغوط على الفلسطينيين للكف عن تصديهم لاقتحامات جيش الاحتلال لمدن الضفة بحسب ما أوردت صحيفة "جيروزاليم بوست" العبرية قبل أيام، واستمرار الجهود الناعمة التي تبذلها السلطة في محاولة لاستعادة السيطرة الميدانية، وتلويحها المبطن بتصفية عناصر المقاومة في الضفة حال رفضوا إلقاء السلاح، والذي عبرت عنه الرسالة التحذيرية التي أرسلها محافظ نابلس لمجموعات "عرين الأسود" بحسب صحيفة "إسرائيل اليوم" العبرية، بأن جيش الاحتلال سيغتالهم فردًا فردًا في حال لم يتوقفوا عن المقاومة، إنما تمثل قمة التعاون الأمني مع جيش الاحتلال، ففي الوقت الذي تغض فيه قيادة السلطة طرفها عن العدوان المتواصل لجيش الاحتلال ومستوطنيه ضد أهالي الضفة، وتتهرب من واجباتها الوطنية بتوفير الحماية للشعب الفلسطيني، وبدلًا من توجيه تعليمات لعناصرها الأمنية بالتصدي لعدوان الاحتلال، نجدها تعزز علاقتها الأمنية مع الاحتلال وترى في المقاومة الفلسطينية ورجالاتها تهديدًا وجوديا لكينونتها السياسية الواهية في انحراف واضح عن مسار النضال الوطني الذي يستمسك به الشعب الفلسطيني في مواجهة الاحتلال.
يتضح انحراف البوصلة الأخلاقية للسلطة عن المسار الوطني من الأنباء التي أوردها الإعلام العبري حول لقاءات جمعت مسؤولين فلسطينيين مع قادة جيش الاحتلال بهدف التنسيق المشترك للقضاء على المقاومة في شمال الضفة، وفي ظل فقدان السلطة سيطرتها الأمنية على مناطق واسعة في نابلس وجنين وصداماتها القمعية مع الفلسطينيين سارع العديد من شرفاء الأجهزة الأمنية إلى القفز من سفينة التنسيق الأمني القذر، واختاروا إسناد المقاومة والمشاركة في تنفيذ عمليات إطلاق الرصاص على جيش الاحتلال، الأمر الذي دق ناقوس الخطر لدى الاحتلال والسلطة معًا، وأعاد إلى الاحتلال ذكريات انتفاضة الأقصى التي سامت المستوطنين وجيش الاحتلال سوء العذاب.
إننا نرى في المواقف السياسية للسلطة الفلسطينية وإجراءات أجهزتها الأمنية مؤخرًا في شمال الضفة أنها تُنذر بخطر كبير على تماسك المجتمع الفلسطيني، وتشير إلى رغبة البعض بحدوث صدام غير محمود بين عناصر الأجهزة الأمنية وبين الشباب المقاوِم في الضفة، فاعتقال أجهزة السلطة للمطارد الأول للاحتلال في نابلس مصعب اشتية، وما تبعه من اعتداءات على الأهالي، وتجرؤ محافظ نابلس على شتم أمهات الشهداء الفلسطينيين، وإقراره بجهوده المشبوهة لدفع عناصر "عرين الأسود" لتسليم أسلحتهم مقابل منحهم رتب ورواتب، وإصرار السلطة على سياسة الاعتقال السياسي، ورفض أجهزتها الأمنية تنفيذ قرارات المحاكم بالإفراج عن معتقلي الرأي، والمعتقلين السياسيين، إضافة إلى مساومة محافظ جنين لحكومة الاحتلال بشكل علني وتلويحه باستعادة فرض السيطرة الأمنية على الشارع الفلسطيني مقابل عدم اقتطاع الاحتلال لأموال المقاصة إنما يمثل قمة الدناءة الأخلاقية، وكأن أجهزة السلطة باتت اليوم تقف حائلًا أمام نضالات الفلسطينيين وتلاحق المقاومة مقابل رواتب وأموال تمنحها حكومة الاحتلال لسلطة عباس وأجهزتها الأمنية.
ختامًا إن خلافة محمود عباس في رئاسة السلطة والمنظمة لن تكون عبر شرعية الدعم الإسرائيلي والأمريكي، كما أن استعادة السلطة سيطرتها على الشارع الفلسطيني في الضفة لا يجوز أن تمر عبر تعزيز التنسيق والتعاون الأمني مع الاحتلال الذي يقتل ويعتقل الفلسطينيين، بل عبر إطلاق برنامج نضالي يلتقي حوله الفلسطينيون، فطي صفحة أوسلو العقيمة بات واجبًا أخلاقيًّا، وممرًّا إجباريًّا لاستعادة الوحدة الفلسطينية، ومقاومة الاحتلال باتت مطلبًا جماهيريًّا يساعد الفلسطينيين على تحرير الأرض وطرد المحتلين.