"إن ميلاد السلطة الفلسطينية على أرض الوطن فلسطين، أرض الآباء والأجداد، يأتي في سياق الكفاح المرير والمستمر، الذي قدم خلاله الشعب الفلسطيني آلاف الشهداء والجرحى والأسرى من خيرة أبنائه، لأجل نيل حقوقه الوطنية الثابتة المتمثلة في حق العودة وتقرير المصير وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف بقيادة منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد للشعب العربي الفلسطيني أينما وجد"، إنَّ هذه الفقرة ليست من بنات أفكاري ولا من خط يدي، بل إنها مستلة من مقدمة القانون الأساسي الفلسطيني الذي يمثل دستور الدولة، وعليه فإن المفردات الواردة تُعبر بجلاء عن تاريخٍ حافل بالنضالات وعن حاضرٍ زاخرٍ بالبطولات وعن مستقبلٍ يلزم ألا يشهد تراجعًا في مستوى التضحيات؛ لينال شعبنا أعظم الأعطيات، وليحقق أبهى الانتصارات، فينعم بدولة مستقلة لا ينازعه فيها محتل غاشم، ولا يشاركه في هوائها ومائها مستوطن غاصب.
لقد تشكلت السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، نتيجة لاتفاق أوسلو المشؤوم الذي وقعته منظمة التحرير الفلسطينية مع (إسرائيل) في واشنطن سنة 1993م، إذ دعا الاتفاق إلى إنشاء سلطة فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع، ويتمثل دور هذه السلطة في تنفيذ اتفاق لحكم ذاتي محدود في بعض مناطق الضفة الغربية وقطاع غزة، وقد جرى التعامل مع هذه السلطة فلسطينيًا وعربيًا ودوليًا، بوصفها نواة الدولة الفلسطينية المنشودة.
والمتابع لسلوك السلطة الفلسطينية بأجهزتها المختلفة يجد أنها قد حادت عن الدور الوطني المنوط بها القيام به، وباتت لا تلبي تطلعات الشعب الفلسطيني، على الرغم من الإمكانات الكبيرة المتاحة تحت تصرفها من أدوات سياسية ودبلوماسية وإعلامية وقانونية وأمنية والعديد من الأدوات التي تستنزف خزينة السلطة، إلا أن الأخيرة لم تغادر مربع تقديس التنسيق والتعاون الأمني مع الاحتلال "الإسرائيلي" ولعلَّ (التعاون الأمني) أبرز ما بقي شاهدًا على اتفاق أوسلو، وتَعد السلطة أن بقاء حكمها مرهونًا باستمراره، فهي تلاحق عناصر المقاومة وتعتقلهم، كما فعلت مؤخرًا مع المقاوم مصعب اشتية، وتسلمهم للاحتلال كما فعلت آنذاك مع القائد أحمد سعدات ورفاقه في سجن أريحا، وتباشر إغلاق المؤسسات والجمعيات، والتضييق على جميع حركات المقاومة، غير عابئة بالقيم والأعراف الوطنية؛ على الرغم من فشل مسار التسوية وتخلي (إسرائيل) عن التزاماتها الموقعة منذ توقيع اتفاق أوسلو وحتى يومنا الحاضر.
ومؤخرًا فقد أدلى رئيس السلطة محمود عباس خطابًا أمام الأمم المتحدة وصف فيه الفعل النضالي الذي يقوم به الأسرى ضد الكيان المحتل بالإجرام، في تنكرٍ واضح للحق الفلسطيني المكفول -وفق القانون الدولي- بالنضال بأشكاله كل ضد المحتل حتى زواله، فهو بذلك يدعم الرواية الإسرائيلية وينظِّر لما تدعيه (إسرائيل) كذبًا في تشويه الفعل النضالي الفلسطيني ونعته بالإرهاب، وقد تتابعت سقطات قيادات السلطة في تشويه الفعل النضالي حتى خرج علينا إبراهيم رمضان (مُحافظ نابلس) متهمًا أمهات الشهداء بالشذوذ لما يفعلنه من تأييد نِضال أبنائهن ضد المحتل، ليؤكد لنا بما لا يدع مجالًا للشك أن السلطة الفلسطينية باتت أداةً مسلطة على رقاب الشعب الفلسطيني، فهي تسخر كل إمكاناتها لحماية دولة الاحتلال، وتسعى لوأدِ كل فكرة تدعم النضال المسلح ضد جنود الاحتلال.
والمتتبع لرأي الأحزاب والفصائل الفلسطينية على اختلاف مشاربها وألوانها يجد أنها تنتقد وتعارض سلوك السلطة في تعاملها مع الفعل النضالي الفلسطيني، لكن لا تعدو هذه الانتقادات عن مجرد كلمات لن تلقى آذانًا صاغية لدى صناع القرار في السلطة، لذا فإن تصويب مسار هذه السلطة وإعادة بوصلتها مهمة أصيلة يتحملها الشعب بأطيافه كافة، لذا فإننا نرى ضرورة السعي نحو إجراء انتخابات شاملة تضمن مشاركة الفصائل كافة، والعمل الجاد نحو إعادة صياغة الميثاق الوطني لهذه السلطة وأجهزتها السيادية، والتحلل العاجل من الالتزامات المترتبة عن اتفاقية أوسلو، وتشييد عقيدة أمنية سليمة لدى الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة؛ لتحقيق حالةٍ من التناغم بين أجهزة الدولة وفصائل العمل المقاوم والوصول لمشروع وطني يقدّرُ الأسرى ويدافع عنهم، ويحترم أمهات وعوائل الشهداء ويحفظ مكانتهم، ويُسخِّر كل جهوده لكنس المحتل الغاشم عن أرضنا المحتلة، حتى تعودنا بلادنا حرةً أبيةً مستقلةً وعاصمتها القدس الشريف.