يبدو أن السلطة الفلسطينية ذهبت إلى منحى أكثر خطورة في أن تنتقل من مرحلة تجاهل المعاناة الفلسطينية إلى مرحلة أهم لديهم تتساوق مع معركة الوعي التي تحاول قوات الاحتلال الإسرائيلي السيطرة فيها وهي مهاجمة رموز وأيقونات وثبات الشعب الفلسطيني المركزة في عائلات الشهداء والأسرى.
تسلسل الشذوذ الميداني والسياسي الذي مارسته السلطة الفلسطينية لم يكن جديدًا بقدر ما هو تطور خطير لأن الشذوذ السياسي والميداني بدأ منذ عام ١٩٩٣ حينما دخلت "أوسلو" معادلة "غزة/ أريحا أولًا" وكانت هناك مجزرة مسجد فلسطين في غزة واعتقال المقاومين من حماس والجهاد الإسلامي والجبهة الشعبية والأحرار من حركة فتح، وكانت هناك عبارات شهيرة لقائد شرطة سلطة أوسلو في ذلك الوقت غازي الجبالي حين قال: "سنجتث حماس والجهاد الإسلامي من كل مكان في فلسطين".
هذا المشهد يؤكد أن هناك حالة من الشذوذ عندما تأتي حالة وطنية تعزز نفسها من خلال البوابة الوطنية ومن ثم تبدأ تمارس ما يرتضيه الاحتلال وما يمليه الاحتلال فهذا اسمه الشذوذ الميداني والسياسي.
تطور المشهد إلى معادلة التوقيع على اتفاقيات جانبية تضمن اتفاقية أوسلو وكان منها اتفاقية باريس والاتفاقيات الاقتصادية المذلة والمؤتمرات الدولية، وهو ما تسلسل أيضًا بعدما كانت حالة من القبضة الأمنية العنيفة على المقاومين في قطاع غزة والضفة الغربية وتجاهل واضح لمعاناة المقدسيين على يد الاحتلال وإسقاط الكفاح المسلح ومن ثم تجاهل الأراضي المحتلة عام ١٩٤٨ والشتات.
هذه القاعدة الجديدة تعد الحالة الشاذة وما يخالفها فهو قاعدة، يعني الحالة الشاذة عن الحالة الفلسطينية هي التنسيق الأمني، السلام الاقتصادي، نبذ المقاومة، أما القاعدة فهي المقاومة والحقوق الفلسطينية وعدم توقيع أي اتفاقية تضر بالشعب الفلسطيني، بعد أن أنهكوا الشعب في هدر حقه، واليوم المشهد تغير كثيرًا بعد أن قطعت رواتب الأسرى في سجون الاحتلال وتعرض الأسرى المحررون لاعتقالات للتعذيب والتنكيل على يد أجهزة أمن السلطة، فباتت لدينا معادلة خطيرة وهي معادلة الاحتلال الإسرائيلي التي تمرر في الضفة الغربية على وقع بؤرة جنين ونابلس.
فكرة نابلس وجنين جاءت على وقع معركة سيف القدس التي عززت الحاضنة الشعبية المهمة وأعطت الثقة وربطت الجسور الجغرافية في كل فلسطين التاريخية مع الشتات.
السلطة الآن تسعى إلى تطبيق معادلتين؛ الأولى تشويه المقاومين وإظهارهم أنهم "زعران" والثانية ضرب معنويات أمهات الشهداء حتى لا يرى أي مواطن أو أي شاب فلسطيني في نفسه شهيدا أو قدوة كي لا تهان أمه، وهذا المشهد صفع من قبل أهالي الشهداء الذين نزلوا للشوارع وقالوا كلمتهم. المقاومة تشتد وهذا مشهد خطير لا تريده السلطة ولا الاحتلال، فنحن ذاهبون إلى معادلة ليست سهلة ورياحها تجري بعكس سفن التنسيق الأمني والاحتلال.
في ظل ذلك يبقى الآن دور الفصائل الفلسطينية وعمقها الجغرافي وكادرها التنظيمي والحالة الشعبية والقاعدة الشعبية والعمق الإقليمي كلها غير مستثمرة للجم هكذا مشروع سرطاني وجد لتفتيت القضية الفلسطينية، والآن السعي نحو خيوط مهمة ووازنة من حركة فتح واجب على الفصائل الفلسطينية، والسعي نحو تفعيل المقاومة وتوسيع ساحات المعركة في الشمال والجنوب وعدم قصره على غزة، وتفعيل الإعلام المركزي المقاوم في كل أروقة الفصائل وتثبيتها بالرواية الفلسطينية المقاومة وليس الرواية الفلسطينية المنبطحة التي تقودها السلطة، غير ذلك سنكون مع استفراد جديد بالحالة الوطنية ومخيم جنين ونابلس ومحاولة للجم كي يستفيد الاحتلال من الوقت لأنه يدرك أن الوقت ليس بصالحه، خاصة أن لديه معادلات إقليمية يجب أن يسير فيها كما ملف الغاز وأوكرانيا وملف التحديات الإقليمية التي يعد نفسه أنه في عنق الزجاجة الآن ويريد هدوءًا على حساب الحق الفلسطيني.