فلسطين أون لاين

أحمد وعبد الرحمن عابد لم يفترقا في الحياة وفي الشهادة

تقرير الفدائي المتمرد ظلَّ منتميًا لفلسطين والمزارع سقى الأرض بدمائه

...
صورة أرشيفية للشهيدين
جنين-غزة/ يحيى اليعقوبي: 

دار باتجاه معاكس لعقارب ساعة التنسيق الأمني الذي تنتهجه أجهزة أمن السلطة التي عمل في صفوفها، لكنه ظل منتميًا لفلسطين، معلنًا التمرد على تلك العقيدة التي لم يقبلها، فأشهر سلاحه في وجه المحتل، وغير اتجاه البوصلة نحو القدس التي لم يضل طريقها يومًا في حياته.

أراد أحمد عابد (23 عامًا) من "كفر دان" غرب جنين، إسقاط راية الاستسلام، فلم يمد غصن الزيتون لاحتلال غاصب، أما رفيق دربه وابن خاله عبد الرحمن عابد (24 عامًا) المزارع الذي عرف بهدوئه، وانشغاله في حب الأرض وزراعتها، فلم يدرك أقرب المقربين منه أنه كان يجني حصاده الأخير لكن ليس بين الأراضي الزراعية، وإنما في ساحة المعركة.

حملت دفعة تخرج الفدائي أحمد اسم "حراس القدس"، فأراد أن يترجم ذلك الشعار على أرضِ الواقع، وكان حارسًا، وفارسًا من فرسان القدس، عمل في جهاز الاستخبارات العسكرية في قلقيلية لكنه ظل ينتمي إلى فلسطين، واختار تنفيذ عمليته البطولية في ذكرى التوقيع على اتفاق "أوسلو"، فوقع برصاصاته على رفض الاتفاق.

فجر الأربعاء، 14 سبتمبر/ أيلول الجاري، استدرج أحمد وعبد الرحمن وهما من منطقة كفر دان قضاء جنين، دورية لجيش الاحتلال في محيط حاجز الجلمة شمال جنين، وأعدا كمينًا محكمًا، تقدم الجنود صوبهما من أجل اعتقالهما لكن الجنود تفاجؤوا بوابل كثيف من الرصاص أطلقه الشابان، اندلعت في إثرها اشتباكات عنيفة بالمكان، فأرسل جيش الاحتلال تعزيزاته، وكذلك سيارات الإسعاف التي نقلت ضابطًا اعترف بمقتله خلال الاشتباكات، في حين ارتقى الشهيدان.

آخر لحظات الفدائي

على الرغم من الحزن على فراق ابنه الوحيد فإن عبارات الفخر بما قدمه أحمد لم تفارق صوت والده متحدثًا عن آخر اللحظات التي جمعتهما معًا: "مساء الثلاثاء طلب من أمه أن تعد طعام العشاء، وجاء ومازحني ضاحكًا، بعدما ربت يده على كتفي وطلب أن أصفف شعري وأحلق لحيتي، وأخذ ابن عمه الصغير واشترى له من البقالة، ثم أشعرني أنه سيذهب لحضور مباراة كرة القدم في البلدة، وبقي الأمر كذلك حتى تلقينا خبر استشهاده وجاءت قوات الاحتلال للبيت".

"ضابط الاحتلال يسأل: شو بشتغل، أحمد؟ فيرد والده: "ما أنت بتعرف ايش بشتغل"، الضابط الإسرائيلي بعدما أعاثوا في البيت خرابًا وجد صورة الشهيد شوكت عابد (استشهد في إبريل/ نيسان الماضي) معلقة في غرفة أحمد الذي تفقدوا كل ملابسه، عاد للسؤال: "ليش معلقة الصورة؟ رد الأب مدافعًا: "هذا ابن عمي"، فقال الضابط: يعني حابب الموضوع (المقاومة)؟، فعدد الأب الانتهاكات: مش شرط يكون حابب، بس تصرفاتكم، ضرب، وقتل... فما كان من الضابط إلا أن قطع كلامه، وينهي الحوار المحتدم: "خلص اختصر الموضوع".

مراد عابد (عم الشهيد أحمد وخال الشهيد عبد الرحمن) كان شاهدًا على آخر لحظات أحمد، يتركها لقراء صحيفة "فلسطين": "حمل أحمد ابني الصغير غيث (عام ونصف العام) وأخذه إلى البقالة واشترى له منها، حينها كانت الساعة تشير إلى العاشرة مساءً، ولاعبه وأحضره لي".

يردف مراد عن صداقة الشهيدين: "هما صديقان منذ صغرهما، طوال الوقت مع بعضهما، الاثنان يلعبان كرة القدم، أحمد يلعب بمركز المهاجم، وعبد الرحمن في حراسة المرمى، فلم يكن غريبًا أن يجتمعا في الشهادة؛ لأنهما لم يفترقا في الحياة".

رافق مراد والد الشهيد عبد الرحمن الذي استدعته قوات الاحتلال للتعرف إلى جثمان ابنه، مضيفًا: "شاهد صورة ابنه على هاتف الضابط الإسرائيلي، وكانت الإصابات في منطقة الرأس".

ينقل مراد عن روايات شهود عيان كانت قريبة من موقع الاشتباك، بأن "الشهيدين دخلا من فتحة بمعسكر للجيش، وكمنا فيه، واستهدفا قوة متحركة، حسب الروايات أن الاشتباكات دارت على بعد خمسة أمتار".

الصورة الأخيرة

في يومه الأخير، طلب أحمد من شقيقاته الأربع أن يلتقط معهن صورة تذكاريةً، لم تعتقد أي من شقيقاته أنها ستكون صورة وداعٍ توثق آخر لحظةٍ جمعته معهن.

في نفس اليوم، زار الشهيد أحمد عائلة الشهيد شوكت عابد، سأل عن ديونه، وكانت مبالغ رمزية للبقالة فسددها، فاتته صلاة العشاء جماعةً، "فوصل للمسجد وكان فيه آخر مجموعة تريد الخروج، تركوا له الباب مفتوحًا، فصلى وقرأ القرآن، وخرج لتنفيذ العملية".

أقبل أحمد على الشهادة لإعلاء راية التوحيد، هذا كله دوَّنه على ورقة، كسرت بياضَها حروفٌ زرقاء خطتها يده، وكانت الورقة الأخيرة له: "أكتب وصيتي هذه وأنا مقبل على الشهادة في سبيل الله، لأن الشهادة هي أفضل شيء ممكن أن نتقرب به إلى الله، والله إني اخترت هذا الطريق لإعلاء كلمة التوحيد، وأن نرفعها خفاقة عالية وأن أقتل في سبيل الله شهيدًا".

أحمد وحيد أهله، وله أربع شقيقات لم يغب حبه لهن عن تلك الوصية: "إلى أخواتي أنتن جميعًا تعرفن ما مدى حبي لكن، ولكن حبي لربي أغلى وأكبر من كل شيء، فقد أمر ربنا بأن نجاهد في سبيله، فإن لم نكن نحن المجاهدين فمن سيكون؟ ويجب أن ندرك أن القضية الفلسطينية ليست قضية سياسية وإنما قضية عقائدية".

لم يكن أحمد بعيدًا عما يجري في المسجد الأقصى من أحداث، وتطورات، في صفحته كان متفاعلاً مع ما يجري، وكأنَّ نار الثورة كانت تستعر في قلبه، تجد صورة نشرها لاقتحامات المستوطنين للأقصى، وكتب معلقًا: "من لا يتأثر بهذا المشهد عليه أن يراجع وطنيته.. الأقصى يدنس على مرأى الجميع، ولا حياة لمن تنادي".

عبر عن فخره ببطولة الشهيد إبراهيم النابلسي في منشورٍ آخر:" نشهد أنك أديت الأمانة وكنت عزيزا مهابا في زمن التخاذل والخيانة، طاردتهم ولم يطاردوك، اغتلت مهابتهم وعنفوانهم ولم يغتالوك، وكانت بندقيتك هي الأنقى من بين آلاف البنادق، طبت مطاردا هماماً وطبت شهيداً في عليين."

أوصى النابلسي شباب فلسطين بعدم ترك البندقية، ولم يغب جواب أحمد عن تلك الوصية، وكانت الإجابة برصاصاتٍ قتلتْ ضابطًا إسرائيليًا.

عبد الرحمن عابد شخصٌ هادئ لكل من يعرفه ومجهول لهم، والده أفضل من يزيح الستار عن هذه الشخصية لصحيفة "فلسطين"، قائلا: "ابني عبد الرحمن مزارع فلسطيني، ورث المهنة عني وعن جده، معروف منذ صغره بحبه للأرض، يكاد يكون روتينه اليومي معروفًا، يذهب الساعة السابعة صباحًا لتفقد الأرض وري المزروعات، ثم يعود للبيت الساعة العاشرة، يرتاح ويغفو قليلاً، ثم يعود للأرض عصرًا لري المزروعات، وهكذا استمرت حياته، غير أنه لاعب كرة قدم".

في يومه الأخير رافق عبد الله والده لحضور حفل زفافٍ، ولم يكن والده يعلم أنه سيحضر عرس شهادة نجله في اليوم التالي: "لم يبدِ لي ابني أي شيء غريب عن روتينه اليومي، حتى أنني استغربت عندما رأيت صورته، فلم أتوقع مطلقًا أن ينفذ عملاً بطوليًا".