لا تفوت الناشطة سهام إغبارية من مدينة أم الفحم، فرصة وصولها إلى سوق البلدة القديمة بالقدس المحتلة، دون التوقف عند محاله التجارية ومدها بشرايين الحياة والصمود عبر التسوق من محال الملابس وكذلك إحياء مطاعمها، بحيث تصبح عملية البيع والشراء أبعد من كونها عملية تجارية، إلى بعد وطني يحافظ على الوجه الفلسطيني في المدينة وعلى استمرار تداول المنتجات بلغة عربية.
إغبارية واحدة من مئات الفلسطينيين الذين ينظمون حملات شد الرحال إلى المسجد الأقصى خلال عطلتي نهاية الأسبوع يومي الجمعة والسبت وفي الأعياد والمناسبات الدينية والوطنية وعطل المدارس، ومن ضمن أهداف الحملات إضافة لديمومة شد الرحال إلى المسجد الأقصى والرباط فيه ومنع المستوطنين من الاستفراد فيه، دعم التجار وإحياء سوق البلدة القديمة.
دعم صمود
تقول إغبارية لصحيفة "فلسطين": "عندما أصل إلى القدس، نمر بأسواقها ونشعر بانتظار تجار القدس لنا، وعليه نكون قد ادخرنا مبلغا للتسوق من هناك حتى ندعم هذه الأسواق وتكون مصدر دخل لهم، ونشجع بعضنا على الشراء منهم".
تضيف: "عن نفسي معظم أغراضي أقوم بشرائها من هناك، من ملابس وعطور، فمنتجات العطارين فيها بجودة عالية".
عمر شعبان عمرو، أحد تجار البلدة القديمة، يحدد المجالات التي يهتم بها أهل الداخل المحتل، كمحال الألعاب والملابس والمطاعم والمجسمات الخشبية، مبينا أن أكثر من يستفيد منهم هم تجار الملابس، الذين يستوردون قطع ملابس مقلدة لماركات عالمية ويعرضونها بربع سعرها الأصلي، كذلك المطاعم بسبب مسافة السفر والطريق الطويل فيصلون وهم بحاجة للأكل والشرب، فتزدهر.
يلقي عمرو في حديثه لصحيفة "فلسطين" نظرة نحو مستقبل السوق المجهول في ظل تضييق الاحتلال، قائلا: "لو نظرنا لأعمال أصحاب المحال، فهم آباؤنا، بالتأكيد لن يدوموا، يبقى التحدي أمام الأبناء، إما بإكمال نفس الطريق مع تطوير المحال، وإما الخروج خارج سوق البلدة القديمة، بسبب تضييق الاحتلال، وأهمها منع اصطفاف السيارات في محيطه، في ظل غياب لجنة اقتصادية حقيقية تضبط التجار".
ويضيف: "الأمر الثاني أن السوق يغلق أبوابه الساعة السادسة مساءً، وهناك عمال وموظفون ينزلون بهذا الوقت للتسوق، وعليه يضطرون للشراء من التاجر اليهودي".
يسلط الاحتلال سيف التضييق على التجار باستخدام ضريبة "الأرنونا"، مؤكدًا أن تأثيرها في التجار كبير، فمثلا محل بمساحة 25 مترًا، سيدفع 13 ألف شيقل ضريبة بلدية الاحتلال حتى وإن كان المحل مغلقًا، من ثم بعضهم لا يستطيع تحمل العبء، فيلجأ لموضوع بيع المحل، وهنا يلعب الاحتلال في قضية تسريب العقارات.
دور تكاملي
الباحث في شؤون القدس د. جمال عمرو، يقول: إن هناك دورًا تكامليًا ما بين الوافدين للأقصى من الداخل المحتل وتجار القدس، وهذا "دور مهم لا يقتصر على البيع والشراء بالصورة التقليدية المعروفة، بل هو سبب أساسي في تثبيت ودعم صمودهم في محالهم، إذا أدركنا الإحصائيات التي تتحدث عن إغلاق 200 محل تجاري بسبب إفلاس التجار، و200 محل تفتح بصورة جزئية".
وأضاف عمرو لصحيفة "فلسطين" بأن دعم صمود التجار المقدسيين ليس دعمًا للتجار، بل للوجه الفلسطيني للمدينة وبقاء البضائع المعروضة بلغة عربية، فالسوق بالبلدة القديمة بقي على حاله يعبر عن عروبة المكان وإسلاميته، وهذا البيع بالتجزئة من بقايا التراث في العمارة الإسلامية.
وتابع، "الناس يعشقون السير في الأسواق في زقاق البلدة القديمة، تحت قبابها، وقناطرها التي يحتمون تحتها من مطر الشتاء، وعليه فالبيئة التجارية في القدس جذابة وتبعث على البهجة، وبمجرد سيرهم هناك تمنحهم هامشا من المتعة والشعور بالسعادة، وهذه مسألة لا تغيب عن تجار القدس".
وبعد عامين من الركود الاقتصادي بسبب أزمة فيروس كورونا بدأ تجار القدس ينتعشون بعد إفلاس بعضهم، وبدأت تنبعث الحياة في شرايين التجارة المقدسية، مجددا انبعثت الحياة بالمطاعم وهي ذات عبق تاريخي يهوى الإنسان الجلوس فيها، ويشكل أهالي الداخل رافعة اقتصادية وإسنادا للتجار، في وقت يتعرضون لمضايقات الاحتلال وإغلاق للسوق لاشتباه وجود ما يسمى "جسم مشبوه" أو بادعاء اعتداء تاجر على مستوطن. بحسب عمرو.
وأشار إلى أن إسناد الداخل يأخذ أكثر من صورة، ففي يومي الجمعة والسبت من كل أسبوع يحضرون بالحافلات مستغلين فترة العطلة الأسبوعية في دولة الاحتلال، وأوقات العطل المدرسية، وفي أوقات المناسبات والأعياد، حتى إن زيارتهم لأسواق البلدة القديمة تفوق زيارة أهل القدس أنفسهم، رغم بعد المسافة.
يدرك الاحتلال أن التضييق على التجار يسهل عليه الاستيلاء على المحال بعد إغلاقها، فاتخذ كما يوضح عمرو، جملة من الإجراءات لعزل السوق عن المدينة منها منع وقوف السيارات في محيطه وفرض غرامات باهظة تصل إلى ألف دولار لمن يركن سيارته، وعليه أصبح المقدسيون يحسبون ألف حساب لذلك، ويضطرون للشراء من أسواق أحيائهم، لكن أهل الداخل يأتون بالحافلات ولا يحتاجون لدفع غرامة.
يدرك الاحتلال الإسرائيلي هذا الدور، فيضيّق على الفلسطينيين، فيسمح بدخول الرجال الذين تتجاوز أعمارهم 60 عاماً، والنساء من جميع الأعمار، لكنه يمنع دخول الرجال دون سن 40 عاماً، ويفرض تصاريح دخول خاصة على من هم بين 40 و50 عاماً.