يعتبر الحدث الأخير في جنين دلالة واضحة على الانتظام التدريجي للعمل العسكري المقاوم في الضفة الغربية، فالكمين المحكم الذي وقع فيه جنود وضباط جيش الاحتلال وقبله عمليات تفجير العبوات وإطلاق النار المصورة والمسجلة؛ يعني أن هناك تطورا لاحظه الاحتلال قبل وقوعه في الضفة الغربية وحاول جاهدا أن ينفذ عمليات خاطفة من اغتيال وحصار وإحباط للنشاط المقاوم تبعتها عمليات "قص العشب" و"كاسر الأمواج"، وبحسب الاحتلال فإن العمليات فاشلة وجاءت بعكس أهداف العمليات.
الشاهد الكبير في ذلك أن تطور العمليات بات باتجاه الهجومي وليس الدفاعي، وتعزز بالتزامن مع تحضيرات الاحتلال لعمليات عسكرية واسعة في شمال الضفة الغربية بحجة وقف النشاط المقاوم، وجاء ذلك بعد أيام قليلة على عملية الأغوار ما يعيدنا في ذاكرة المشهد إلى عمليات جنين في "إلعاد" والعفولة والداخل وكلها هجومية نوعية بامتياز.
الآن وفي ظل التطور الميداني ومحاولات الاحتواء الفاشلة التي تمارسها قوات الاحتلال بالإضافة إلى التضليل والتكتيم الإعلامي على مجريات الأحداث؛ فهذا يعني أن الضفة الغربية خارج السيطرة بشكل عام، وهذا بالحديث عن التحرك في غزة لأجل فك الحصار والمطالبة بالثروات الطبيعية والتهديد المبطن بتدرج التصعيد وبالانتقال من الجنوب وصولا للشمال، فهناك جبهة أخرى تتحمى وتتجهز لمعركة غاز هناك في البحر الأبيض المتوسط أيضا.
تدرج لا تعرف حتى اللحظة نهايته أو شكل تطوره، لكن المعروف من كل هذه الأحداث أن الهدوء تلاشى كليا في كل الجبهات بما فيها الأهدأ والأكثر سيطرة أمنية وهي الضفة الغربية، فتسجيل ثلاث إلى خمس عمليات إطلاق نار يومية دلالة واضحة على انتظام تدريجي وتطوير نوعي على مقاومة فردية تتجه نحو الانتظام كانت بدأت فعلا عام ٢٠١٥ فيما عرف بانتفاضة القدس.
وبين هذه الجبهات الثلاثة تبرز عقبة مهمة ورئيسية أمام الاحتلال في تنفيذ مخططاته، فما زالت الحرب الروسية الأوكرانية تؤثر بشكل مباشر على حالة الاستقطاب الدولي على صعد السياسة والطاقة والاقتصاد بالتزامن مع حالة التوتر الإقليمية بشأن الملف النووي الإيراني، وعلاوة على هذا كله هناك حالة تخبط سياسي في داخل الكيان الإسرائيلي تشتت وبقوة التركيز الأمني وتضعف واجهة التعامل الميداني والدولي، وهذا كله يصب في معادلة قوة المقاومة في غزة وإسنادها من الشمال الفلسطيني المتوتر، وكذلك صعودها وتشكل البؤر الميدانية القوية في الضفة الغربية.
ورسماً لسيناريوهات المرحلة القادمة فإن خيارات الاحتلال على وقع ما ذكرناه سابقا شحيحة، بل وفيها انتحار مرتجف في التعامل مع الملفات، وأهمها الآن الضفة الغربية التي يرى الاحتلال بأن عملية عسكرية واسعة فيها قد تتسبب في انهيار السلطة الفلسطينية، والتنسيق الأمني يكون قد تم تشييعه على أكتاف المقاومين الذين سيسيطرون على المقار وسيادة ما تبقى من سلطة، وبالتالي هناك خطورة كبيرة من تلك الخطوة.
وسيناريو آخر أكثر تعقيدا وهو تسليم السلطة زمام الأمور كاملة والتخلص من عبء العمليات وجعلها من أنشطة السلطة، وهذا يعد خطرا أيضا على الاحتلال لأن السلطة الفلسطينية كانت استلمت غزة والضفة ولم تفلح فيما أراده الاحتلال، وسيطرت المقاومة على المشهد.
والسيناريو الثالث وهو الأضعف أمنيا والذي سيبقي التوتر قائما ولا يوجد فيه كسر للأمواج أو قص للعشب وهو الحالي؛ من نشاطات واقتحامات واغتيالات، بل على العكس هذا النموذج ساهم في تقوية المقاومة وزاد رصيدها وطورها وأعطاها حاضنة شعبية وفضح الاحتلال وأربكه.