منذ منتصف القرن التاسع عشر وبداية الصهيونية السياسية مع ظهور تيودور هرتزل وانعقاد المؤتمر الصهيوني الأول في بازل في سويسرا سنة 1879، حرصت الحركة الصهيونية على محاربة اندماج اليهود في مجتمعاتهم الطبيعية التي ينتمون إليها، وقد أخذت على سبيل المثال منظمة "أحباء صهيون" وغيرها من المنظمات اليهودية تلك التي أنشئت في روسيا سنة 1881 على رفع شعار "إلى فلسطين".
ولم يكن ذلك سهلاً فقد واجهت تلك الحركات معارضة الكثير من مواطني البلاد ومن اليهود أنفسهم الذين راودتهم المخاوف من الشك في وطنيتهم ومن ازدواجية الولاء.
وظهر فيما بعد ضرورة خلق أُسس وهمية مختلفة للانتماء ومزجها بأساطير دينية لتبرير دفع اليهود للهجرة إلى فلسطين لبناء المستوطنات وكان هناك مخططات غربية استعمارية بدأت من فرنسا ثم من بريطانيا لاستثمار هذه النزعة وتغذيتها كي تصبح واقعًا للتوسع الغربي في المنطقة الحُبلى بالثروات الطبيعية الهائلة والموقع ذي الأهمية الجيواستراتيجية.
ونجحت الدول الغربية في حقن هذا الهدف المشترك المعروف ببرنامج "بازل" على "إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين يضمنه القانون العام" وتم إنشاء "الصندوق القومي اليهودي (الكيرين كاييميت) عام 1951 ومن ثم "الكيرين هايسود" ليرتفع عدد اليهود الذين أقاموا مستوطناتهم في فلسطين إلى 80 ألفًا أي ما يعادل 11.1% من مجموع السكان، وبدعم بريطانيا والولايات المتحدة ووصل العدد عام 1922 إلى 650 ألفاً وحتى عام 1948 أي ما يعادل 33.3% من مجموع السكان.
وكان هناك ضرورات تغذية الانتماء لوطن لا يعرفونه أو ينتمون إليه، من خلال الهجرة وتعزيزها، وشراء الأراضي بكل وسائل الخداع كملكية يهودية عامة ونشر اللغة التي اندثرت، وفبركة تراث "عبري"، وشعارات "أرض الميعاد، وقانون العودة، وتصنيع العلم وما يرمز إليه، وما أُسمي بالنشيد الوطني "هَتِكْڤاه".
لقد حَوّل قادة الحركة الصهيونية كل هذا المزيج الميثولوجي الزائف إلى برنامج سياسي أقاموا به كيانهم لتصبح فلسطين بداية لمشروعهم الكولينالي الذي راودهم حين شكلوا علمهم ليرمز لِأضغاث أحلامهم بـ"وطن يمتد من النيل إلى الفرات"!
وقد شكلت الأرض جوهر مشروعهم السياسي الاقتصادي الذي غَطّوهُ بِغُلالة أيديولوجية عنصرية دينية كثيفة.
كانت تلك البداية التي لم تنته باحتلال فلسطين فقط، وإنما استمر حشد القوة وشن العدوانات حتى جاء حزيران عام 1967 فتمددت المستوطنة حتى شملت أراضي من لبنان وسوريا ومصر وقطاع غزة والضفة الفلسطينية التي ضمتها الأردن ليكتمل احتلال فلسطين.
ولكن هذا المشروع الوهمي لم يَقوَ على الاستمرار والنمو كما كان يَحْلَمُ قادة هذا المخطط الجهنمي، ولم يستطع هضم كل ما نجحت الآلة العسكرية المدججة بالأيديولوجيا الصهيونية الفاشية وذلك حين انكفأت من سيناء وكان ثمن ذلك الوصول إلى القاهرة، ومن جنوب لبنان بعد أن انتصرت المقاومة الوطنية اللبنانية في فرض انسحاب مُذِلّ من طرف واحد.
اندحار وراء آخر، لِيَنفضَّ عقد الميثولوجيا الصهيونية، فلم يَبْقَ إلاّ الرُّكام من شعار "أرضك (يا (إسرائيل) من النيل إلى الفرات) ".
وكانت غزة العزة قد دفنت مرةً وإلى الأبد شعار "أرض الميعاد" لحظة داست تلك الأيديولوجية العفنة حين استطاعت بتضحيات فرسان المقاومة تفكيك نحو 21 مستوطنة في 12 أيلول عام 2005 التي كانت تكتم أنفاس ما يعادل 35% من مساحة قطاع غزة، وتجثم على مواقع مصادر المياه وتلك الأمنية الإستراتيجية.
لقد أكدت المقاومة في هذا أن إرادة الصمود هي المنتصرة دوماً، وهي الممر الإجباري الأقصر لاستنزاف العدو وفرض كلفة عالية على مشروعه الدموي حتى إفلاسه فيصبح بلا جدوى وهي تبدع في اختراق نقاط ضعفه ومفاجأته بتكتيكاتها الذي دفعته للهروب من جزء عزيز من فلسطين لأول مرة منذ تأسيس هذا الكيان الزائل وانزياح أكثر من 8 آلاف مستوطن قالوا لهم يوماً إن فلسطين وطنكم.
كما شكلت "حرب الأنفاق" السلاح الناجح الذي فرضته طبوغرافية قطاع لا تزيد مساحته عن 360 كيلومتراً مربعاً، ولم تُجْدِ كل المواقع العسكرية المحصنة من وقف اقتحامات رجال المقاومة ومن دکھا ومن فرض هدم جيش العدو للمستوطنات بأيديهم بعد 38 عاماً من احتلال هذا الشريط الساحلي الضيق.
وشكل هذا "السقوط العظيم" نقطة تحول تؤكد أن هذا العدو قابل للهزيمة رغم كل تصريحات رئيس وزراء كيان العدو الأسبق شارون بأن أهمية مستوطنة "نتساريم" تعادل تماما (تل أبيب) وهو الذي لم يستطع تبرير جُبنه حين وضع الاندحار في سياق خطة "فك الارتباط".
وستبقى هذه الذكرى المجيدة في عامها السابع عشر ملهماً وأنموذجاً لكل انتصارات المقاومة التي تلت إبان كل العدوانات النازية الكبرى التي صمدت فيها المقاومة الباسلة وصدتها، وراكمت خلالها نقاط قوة كبرى، وأثبت فيها شعب فلسطين التفافه وصموده خلف مقاومته لإنجاز أهدافه الوطنية واستعادة ثوابته الوطنية وبداية مشروع التحرير المظفر الذي تتابع ضفة القسام اليوم بناءه لَبِنَةً وراء أخرى وقد اختار الشعب المرابط المقاومة خياراً حتى بناء الدولة الفلسطينية الحرة السّيدة والمستقلة.