فلسطين أون لاين

أزاح عن كاهل الشعب معاناة كانت تجثم على تفاصيل حياتهم اليومية 

تقرير اندحار الاحتلال عن غزة.. عيدُ نصر يطل من الماضي على الغزيين

...
صورة أرشيفية
غزة/ يحيى اليعقوبي:

صوت أمواج البحر كان يتهادى إلى مسامعه، كلما اقترب نحو الشاطئ أكثر، بعد ساعاتٍ قليلة من الاندحار الإسرائيلي عن المستوطنات الجاثمة فوق أراضي قطاع غزة، وصل أحمد المصري وكان طالبًا جامعيًّا آنذاك، وصديقه إلى بحر خان يونس، وكان العناق الأول مع تلك الأمواج بعدما حرمه الاحتلال النزول إليه طيلة خمس سنوات.

من شدة شوقه للبحر نزل صديقه بكامل ملابسه للمياه، كطفلٍ ارتمى في حضن أمه بعد فراقٍ طويل، بينما رفع أحمد بنطاله قليلًا، وبلل قدميه بالمياه، ثم غرس يديه ورشق بها وجهه وهو يلعن الاحتلال آلاف اللعنات على هذا الحرمان، وكأنَّه في حلم لم يستيقظ منه بعد، وهو يطل من ذكريات الماضي، على هذه المنطقة التي حرم الاحتلال السكان منها، تبعث خيوط السعادة من قلوب الوافدين تباعًا.

عرس النصر

مع أول إطلال لخيوط صباح 12 سبتمبر/ أيلول 2005، اندحر معها آخر جندي ومستوطن إسرائيلي عن قطاع غزة والذي استمر في إخلاء 21 مستوطنة كانت تحتل 35% من مساحة القطاع عدة أيام، ذهب أحمد مع جموع من المواطنين الذين زحفوا نحو المحررات، وأقاموا أعراس النصر على أنقاضها، وكانت "نفيه دكاليم" (المستوطنة المحررة التي كانت قريبة من منزله) أول مكانٍ حملته إليه قدماه.

لم يغير مرور سبعة عشر عامًا، من ملامح الفرح التي أعادت قسماتُ وجه أحمد المصري رسمها من جديد في مستهل حديثه مع صحيفة "فلسطين" عائدًا ليوم "الانتصار العظيم" كما وصفه، فيقول: "ذهبت مع أصدقائي الشباب إلى المحررة، كان المشهد مليئًا بالفرح وكأنه عيدٌ فلسطيني جديد رسم بمشهد حي باندحار الاحتلال، وهذا جدد الأمل بأنه يمكن دحر الاحتلال عن كل فلسطين، كنت أمام مشهدٍ متناقض عندما وصلت بوابة المستوطنة، وقبل ساعات كانت تعج بالآلات والحراس والجنود والمستوطنين".

يدخل تلك المحررات من بوابة الذاكرة، تقفز  أمامه صورة أخرى: "في اللحظات الأولى، رأيت عشرات الآلاف من الناس في قلب المحررات، كانت ترتسم الابتسامة على وجوههم الممزوجة بنشوة النصر، تساءلت في قرارة نفسي: "كيف ترك الاحتلال كل هذه المساحات والأراضي الزراعية!؟، لكن مشاهد من صور المقاومة التي أرقت الاحتلال سرعان ما حملت إجابة فورية على تساؤلي".

مشاعر الفرحة التي عاشها، أحمد سبقتها معاناة كبيرة، فبالرغم من أن المستوطنة كانت تبعد عن منزله مسافة 2.5 كيلو متر، لكن لم تبعد عنه مشاهد الرعب والخوف والاعتداء المتواصل، ولم يسلم من أذى المستوطنة. 

يتوقف هنا مستذكرًا: "كان الرصاص يصل المنطقة التي كنت أسكن فيها، حتى أن ابنة شقيقتي أصيبت برصاصة في ساقها وهي تلهو بمطبخ البيت، كان صوت الرصاص والمدافع الرشاشة المرفوعة على رافعات ثابتة تكشف معظم منازل محافظة خان يونس، وكانت تطلق زخات من الرصاص على منازل المواطنين مساءَ كل يوم في مشهد مرعب يحبس الأنفاس طوال الليل من الرعب والخوف".

لم تكن المستوطنات هي التي تحررت فقط، بل أيضًا البحر تحرر من الاحتلال، يصف فرحة اللقاء الأول بالبحر "هو مشهدٌ صعب، لأنه جاء بعد حرمان على مدار خمس سنوات، لا يمكنني نسيان مشهد رؤيتي للبحر الأزرق، صوت الأمواج التي غابت عن مسامعي فترات طويلة، ترقد على ملامحه ابتسامةً عريضةً معلقًا على نزول صديقه للبحر بكامل ملابسه: "عبر المشهد عن حجم الشوق والحرمان في نفس الوقت".

حواجز وتفتيش

رغم تلك المشاهد الممزوجة بنشوة فرحة الانتصار التي لم ينسها أحمد، إلا أن ذاكرته كانت تسحبه إلى الحواجز التي أرقت حياته: "كنت طالبًا جامعيًا، وأذهب للدراسة في غزة، وبسبب حاجز  "المطاحن" الذي يفصل بين محافظات جنوب القطاع عن غزة، اضطررنا للاصطفاف في طابور طويل من السيارات أثناء عودتنا إلى منازلنا، واستأجرت منزلاً في مدينة غزة".

كان الحاجزُ الإسرائيلي عبارة عن معسكر للاعتقال، يدخل الناس في بوابته فيمر أناس ويعتقل الاحتلال آخرين، لا يفر من ذاكرة أحمد هذا الحاجز قائلاً: "كنا نعيش حالة رعب وخوف، وكأنه مصيدة اعتقلوا فيها المئات، وكلما خرجت منه سالمًا كانت روحي ترتد إلي".

تمثل ذكرى الاندحار للمدرس محمود كلخ من خان يونس كذلك، "يومَ نصر جاء بصمود الشعب الفلسطيني وضربات المقاومة، التي جعلت جيش الاحتلال يندحر عنوةً عن المستوطنات التي كان يعتبرها مثل (تل أبيب)".

أزاح الاندحار عن كاهل الشعب معاناة كانت تجثم على تفاصيل حياتهم، كما بقيت تجثم على ذاكرته رغم مرور سبعة عشر عامًا على اندحار الاحتلال، قائلاً: "كنت بالجامعة، وكنا نقف في طابور طويل للسيارات يصل إلى اثني كيلو متر، أذكر أنه في يومٍ لم أجد سيارة أعود بها من غزة فركبت بشاحنة ماشية، وكان مطلوبًا منا المرور على ثلاثة حواجز يوميا.

 الأول حاجز "المطاحن" ثم بعد الانتظار يذهب إلى حاجز مستوطنة "نتساريم" وهنا كان الناس ينزلون للشاطئ ويقطعون مسافة طويلة مشيًا، وبين الحاجزين كانوا يمرون عن حاجز ما يعرف باسم مستوطنة "كفار داروم" سابقًا، ونضطر للالتفاف بين الطرق الزراعية".

على الحواجز، كانت مشاهد التكاتف الفلسطيني حاضرة خاصة أيام الإغلاق واضطرار الناس للمبيت لليوم الثاني أو ليومين متواصلين يمنعهم فيها الاحتلال من العودة لمنازلهم، لا ينسى كلخ تلك المشاهد: "من أجمل ما كان يحدث وسط تلك المنغصات، هي العائلات التي كانت تفتح أبواب منازلها، للرجال والنساء، للمبيت بداخلها بدلاً من افتراش الأرض، وتوفير الأكل والشرب لهم، وهذا يعكس أخوة وترابط الشعب الفلسطيني وسط المحن والأزمات".

لهفة الشوق

الساعة السادسة والنصف، غير محمد حجازي وكان طالبًا في مرحلة الثانوية آنذاك، وجهته وتغيب عن المدرسة، دفعته لهفة الشوق لرؤية الأراضي المحررة للتغيب عن المدرسة والسير لمسافة عدة ساعات نحو محررة "نتساريم".

يقفز يوم دخول المحررة أمام ناظريه وكأنَّه يتحرك أمامه من جديد، يروي حجازي لصحيفة "فلسطين": "كنت من أوائل الذين دخلوا تلك المستوطنة، حينها أصابني شعور غريب على أبواب تلك المحررة، حتى أنني جلست في مكاني ولم أستطع التقدم، استحضرت حينها قول الله تعالى "نصرٌ من الله وفتح قريب".

تجول حجازي في المدينة وشاهد الأبنية المهدمة وقد سويت في الأرض، أيضًا استحضر هنا آية أخرى "يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين"، مضيفا: "هتف الناس بصوت عالي للمقاومة الفلسطينية، التي كانت سببًا في دحر هذا الاحتلال الغاصب من أرضنا المحتلة (..) تذكرت الاستشهاديين الذين اقتحموا المستوطنة برشاشاتهم البسيطة، ومنهم جارنا الشهيد يوسف أبو شريعة، تخيلت مكان وشكل الاشتباك، ومشاعره وهو يقتحم المستوطنة ويقاتل المستوطنين".