توقف محمد غطاس وهو عائدٌ من عمله بالداخل المحتل بعد يومٍ متعب، ينظر من بعيد إلى مركبات جنود الاحتلال المتوقفة أمام منزله، الذي يمتلئ بالأقارب، صمت للحظات قبل أن يكسر صمته عندما وصل إلى عتبات البيت موجهًا سؤاله لشقيقه: "شو في؟"، كان يجهل ماهية الحدث كاملاً: "المخابرات بدهم إياك"، داهمته أسئلة كثيرة، دفعته لتأمل تفاصيل يومه، قبل أن يقطع شقيقه مسار صراعه مع أفكاره الداخلية مقربًا إليه الموضوع أكثر: "ابنك فادي إله أربع ساعات مش مبين".
اقتاد جنود جيش الاحتلال والد فادي إلى مركز التحقيق، وهم في الطريق اتصل بهم ضابط إسرائيلي يسأل عن مواصفات ملابس ابنه، فأخبره أنه يرتدي قميصًا أبيض وبنطالًا أسود، بعدما انتهت المكالمة الهاتفية، توجه نظره نحو شقيقه سبقت دموعه صوته: "فادي استشهد!"، صمت قليلاً، ثم أضاف: "لما يسألوا المخابرات عن المواصفات، يعني بدهم يتأكدوا أنه هو ولا لا".
"في التحقيق سألني الضابط: "بتعرف انه ابنك نفذ عملية بالخليل، وطعن جنديًّا؟"، فنفيت وقلت له: مستحيل! ثم سألني: "بدك تشوف صورته"، وعندما عرض صورة وهو مسجًّى على الأرض بدمائه تخترق جسده خمس رصاصات وبجواره يضعون سكينًا، شعرت بانكسار القلب لم أستطِع مواصلة النظر، ابنك الذي ربيته تراه ممدًّا على الأرض يغطي الدم قميصه".. بصوتٍ يكسره الفقد يروي محمد غطاس لصحيفة "فلسطين" تفاصيل إعدام جنود الاحتلال لابنه فادي (20 عامًا) عند مدخل بيت عينون شمال الخليل الجمعة الماضية.
ادعاءات كاذبة
نفى غطاس ادعاءات جنود الاحتلال فلم يسبق أن شارك نجله في أي أعمال مقاومة، وعادةً ما يكرس وقته للعمل في أحد مطاعم مخيم الدهيشة بمدينة بيت لحم، يعلق: "قلت للضابط: إنكم أنتم من أطلق النار على ابني، ثم وضعتم سكينًا بجواره، ثم قلت له: أريد مشاهدة فيديو لابني وهو يقوم بتنفيذ عملية طعن لو كان ادعاؤكم صحيحًا، فرفض وتذرع أن هذا يحتاج إلى إجراءات"، معتبرًا ذلك "دليلاً على إعدامه بدم بارد".
يعزز والده كلامه بدليل يكذب جيش الاحتلال، قائلا: "أصيب ابني بقطع في أوتار يده بعد سقوط زجاج نافذة عليه وكان يتلقى العلاج الطبيعي وقبل أسبوع استطاع التعافي والعودة للمطعم، مع استمرار جلسات العلاج، والاحتلال وضع السكين عند اليد المصابة، فكيف لشخص مصاب أن يحمل سكينًا؟".
كان فادي يستعد لبدء موسمه الدراسي الجامعي الأول في جامعة فلسطين الأهلية في بيت لحم، بعد تأخره لمدة عام، تفاصيل فرحة لم تكتمل يستحضرها والده: "لم أستطِع تدريسه بالجامعة العام الماضي رغم حصوله على معدل 79.9% بالفرع العلمي، لأن الظروف المادية لم تسمح وطلبت منه تأجيل التسجيل لهذا العام، وبالفعل عمل في مطعم وادخر مبلغًا من المال، وقام به بالتسجيل للفصل الدراسي الأول تخصص "إدارة أعمال"، واشترى ملابس جديد وأحذية وكان سعيدًا ومتلهفًا لبدء الدراسة".
العام الماضي حاول فادي التسجيل في كلية الشرطة لكن بسبب عشر واحد حرم من التسجيل، رغم محاولة مطالبة العائلة لإدارة الجامعة تجاوز مفتاح القبول (80%) والتنازل عن عشر لأجل تحقيق حلمه، لكن الطلب قوبل بالرفض، وتأخر حلمه عامًا آخر.
أحلام قتلت
فوق جدران مخيم الدهيشة ومنتزهاته، كان فادي يمارس رياضة الباركو، تدرب كثيرًا وسقط على الأرض مرات عديدة وجرح، قبل أن يتقن هذه الحركات التي تعلمها عن طريق الإنترنت خلال شهور عديدة، تمكن من القفز للمرة الأولى، في لحظة امتزج فيها الشغف بالخوف الذي سيطر على قلب والده: "كان الناس يطلبون مني أن أمنعه من ممارسة اللعبة لخطورتها، لكنه كان مصممًا على مواصلة طريقه وحلمه فيها، وكنت أحاول منعه من ذلك خوفًا عليه".
يبتسم صوت والده في غمرة الحزن مستعيدًا بعض ذكريات فادي: "كان يقفز على شرفات المنزل، فوق الجدران، وكنت دائمًا أنفعل خوفًا عليه".
قبل عامٍ دقت طبول الفرح في منزل عائلة غطاس، فرحًا بتفوق فادي، الذي وضع قدمه على أولى عتبات المستقبل الذي لطالما حلم بالوصول إليه، "رأيته وهو يُحمل فوق الأكتاف ويزف وكأنه عريس، غمرتني فرحة عامرة به وتألمت أنني لم أستطع تسجيله بالجامعة، كما أتألم اليوم بفقده قبل إكمال حلمه بالدراسة الجامعية".
بعدما كان يجول فادي في شوارع المخيم ويقفز فوق جدرانه، الآن تتزين تلك الشوارع بصورته التي تذكر عائلته وأصدقاءه به.
لم يكتفِ الاحتلال بإعدام فادي بإطلاق النار عليه من مسافة الصفر ومنع طواقم الإسعاف من الاقتراب منه وتركه ينزف حتى ارتقائه شهيدًا، بل ما زال يحتجز جثمانه، ما يزيد أوجاع والديه اللذين يريدان مواراته تحت الثرى وإلقاء نظرة الوداع الأخيرة عليه وزيارة قبره علها تبرد من نار الفراق وتضمد جرحًا غائرًا فتحه الاحتلال في قلبيهما.