أنزل الله القرآن وجعله معجزة خالدة إلى يوم الدين ليكون دستورًا للناس ومرجعًا لهم في شؤون الدنيا والآخرة، وشرع سبحانه وتعالى من الأحكام ما يكفل للناس حياة كريمة ملؤها الأمن والسلم والاستقرار.
وكان حفظ الضروريات الخمسة (الدين والنفس والعقل والعرض والمال) من أهم ما شُرعت لأجله الأحكام في الدين الإسلامي، ومن تلك الأحكام "القصاص" الذي قال الله فيه: "لَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ".
وإذ يؤكد رئيس دار الإفتاء في الجامعة الإسلامية عاطف أبو هربيد، أنّ تحقيق السلم الأهلي والمجتمعي المنشود لا يتحقق إلا بتنفيذ الأحكام وتطبيق شريعة الله، نفذت وزارة الداخلية والأمن الوطني أحكامًا قضائية بالإعدام، بحق مُدانَين اثنين منهم بالتخابر مع الاحتلال، وثلاثة بجرائم قتل جنائية.
وأوضحت الوزارة في بيانها، أنّ التنفيذ جاء بعد استنفاد درجات التقاضي كافة بعد أن مُنح المحكوم عليهم حقهم الكامل في الدفاع عن أنفسهم بحسب إجراءات التقاضي.
عقوبة مقدرة
وفي حين تقول الوزارة إنّ تنفيذ الأحكام يأتي "استنادًا إلى نصوص القانون الفلسطيني، وإحقاقًا لحقّ الوطن والمواطن، وتحقيقًا للردع العام بما يُحقّق الأمن المجتمعي"، يُشدّد أبو هربيد على أنّ القصاص "عقوبة مقدرة شرعًا، تقضي بمعاقبة الجاني بمثل ما فعل، فصارت عقوبة القاتل أن يُقتل".
ويوضح أنّ الله جعل عقوبة القاتل بيد أولياء الدم (أهل المقتول) فخيّرهم بين القصاص أو أخذ الدية أو العفو، لقوله تعالى: "كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنْثَى بِالأُنْثَى" إِلَى قَوْلِهِ "فَمَنْ عُفِىَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ".
"فإذا ما اختار أهل المقتول القصاص فذلك حقهم ولا يلامون باختياره، لأنه إذا هانت النفوس هان ما دونها من الأعراض والعقول والأموال، فتضيع الضرورات الخمس، وما يتبعها من الحاجيات"، يقول أبو هربيد.
ويلفت إلى أن الشريعة الإسلامية أباحت في سبيل حفظ النفس البشرية، أكل الميتة وشرب الخمر "إن كان لا بد منها للنجاة، ونهى عن كل صور الاعتداء على النفس المعصومة بغير وجه حق، وجعل من قتل نفسًا فكأنما قتل الناس جميعًا واستحق بذلك غضب الله عليه وجعل جزاءه جهنم في الآخرة".
الحكمة من مشروعيته
وفي قول الله تعالى: "وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ"، تتجلى الحكمة من مشروعية القصاص، والتي يعددها أبو هربيد بالقول: "إن تنفيذ أحكام القصاص تردع كل من تسول له نفسه بالقتل إن عرف العقوبة، وتشفي صدور أهل الميت، وتزجر كل من يفكر في الأخذ بالثأر، فيشيع الأمن والسلم والطمأنينة في نفوس الأفراد في المجتمع، ويتفرغ الناس لمعاشهم وأعمالهم، وبهذا تتحقق الحياة للمجتمع".
وعن معنى التقوى في القصاص " لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ"، يوضح أن هذا الخطاب موجه للعُقلاء وليس لضعفاء العقول والسُفهاء؛ فأصحاب العقول إذا فكروا في القصاص اعتبروا وعرفوا قدر هذا التشريع، وهي تعني تتقون بتطبيق شرع الله، وتتقون أيضًا القتل وإزهاق النفوس بغير حق، فيسلم الناس وتسلم نفوسهم وضروراتهم، ويأمنون في مجتمعاتهم، فهذه الأمور لا يعرف قدرها إلا من فقدها.
ويبين أن المجتمع إذا ما اعترض على مشروعية القصاص في الدين الإسلامي، فإنه بذلك يساهم في نشر ثقافة الجريمة لكثرة ما يُشاع من جرائم هانت لها النفوس، فإذا طُبق هذا التشريع لا يمكن لأحد أن يجترئ على النفوس".
ويضيف: "استحق القاتل القتل بأنه أشاع الفاحشة في المجتمع وشجع غيره على الجريمة، وأنه يحرم أهل المقتول من الخير الذي كان يمكن أن يحصل لهم لو كان الشخص حيًا، ويمنع المجتمع أن يستفيد من الخير الذي كان سيقدمه للناس".
وعد أبو هربيد القاتل أنه معتد على شرع الله الذي حرم الاعتداء على النفس، ومعتدٍ على نفسه بأن جعلها مستحقة للقتل وأوردها المهالك.
"الميسور لا يَسقُطُ بالمعسور"، بهذه العبارة يرد رئيس دائرة الإفتاء على من يقول بتعذر تنفيذ الأحكام بحق المجرمين لعدم قيام الخلافة الإسلامية، متممًا حديثه: "كلنا مقصرون في تقديم أحكام الشريعة الإسلامية وهذا ليس مبررًا لترك بعض الأحكام التي يمكن تطبيقها، فما كان ممكنًا يصار إليه، وما كان متعذرًا نهيئ الظروف إليه".
أحكام القصاص
أما عن أحكام القصاص فيقول أستاذ أصول الفقه المشارك بسام العف: "إن أحكام القصاص لا تنفذ إلا بشروط شديدة ومحددة وهي لا تكون إلا في حالات القتل العمد دون وجود شبهة بأن يكون القتل خطأ".
ويبين أنه لو تنازل أولياء الدم عن حقهم بالقصاص لا ينفد القاتل من العقوبة، بل يبقى حق ولي الأمر (الحاكم) بتنفيذ عقوبة تعزيرية لتكون رادعًا له عن الجريمة وحتى لا يكون العفو عنه ذريعة لغيره ممن يفكر بالقتل.
ويرجع العف أسباب القتل وتفشيه في المجتمع لأسباب عدة أهمها: "ضعف الوازع الديني عند بعض الأفراد وغيابه أحيانًا، وقلة تنفيذ أحكام القصاص بحق الكثير من الجناة في المجتمع، فلا يجد من يفكر بالقتل ما يردعه لا دينه ولا السلطة والقضاء".
ومن الأسباب أيضًا: "حب الدنيا ونسيان الآخرة، ما يجعل الإنسان يقتل أخاه لبعض المال أو لغيرها من متاع الدنيا الزائل".