فلسطين أون لاين

تحقيق في الضفة.. مواطنون يلتهمون "بكتيريا قاتلة"

...
صورة توضيحية
رام الله-غزة/ تحقيق رامي رمانة:
  • رئيس نقابة أصحاب الملاحم يتهم جهات متنفذة بحكومة اشتية بـ"التواطؤ" مقابل مكاسب مالية
  • وزارات حكومة رام الله تتهرب من مسؤولياتها وتلقي باللوم على بعضها
  • "حماية المستهلك": اللحوم المذاب عنها الثلج لا يصلح بيعها بل تُصادر وتُتلف
  • مستشار قانوني: بيع اللحوم بهذه الطريقة مخالفة صريحة "تصل إلى حد الجناية"

كشفت معلومات متعددة المصادر توصل إليها معد التحقيق إلى بيع جزارين لحومًا حمراء "مجمدة" على أنها طازجة، في أسواق الضفة الغربية، دون علم المُشتري، وذلك في مخالفة صريحة لقانون حماية المستهلك الصادر عام 2005، ومحاولة لكسب غير مشروع على حساب حياة المواطنين.

ووفق مختصين، فإن إذابة اللحوم المجمدة وتركها وقتًا دون سرعة طهيها يُنتج بكتيريا خطيرة على صحة المستهلك، ويزداد ذلك خطورةً مع تجميدها وإذابتها مرات عديدة إلى حين نفاد الكمية المعروضة، بيْد أن وزارتي الزراعة والاقتصاد بحكومة اشتية في رام الله تتهربان من المسؤولية إزاء ذلك، وتُلقي كل واحدة منهما مسؤولية المتابعة على الأخرى، في استهتار واضح بصحة المواطنين وحياتهم.

وبينت مصادر خاصة لمعد التحقيق أن "الجزارين المخادعين" يشترون خرافًا وعجولًا "مجمدة" من الشركات المحلية المستورِدة، ثم يتركونها بعضًا من الوقت حتى يذوب عنها الثلج، ومع اقتراب وقت عرضها في محلاتهم، يغسلون تلك اللحوم بماء ساخن لإيهام المشتري أنها "حديثة الذبح" بل ويلفّونها بقماش أبيض كما يفعلون باللحوم الطازجة تمامًا.

وأفاد مندوب مبيعات؛ فضّل عدم الكشف عن هويته، بأن مشتريًا طلب منه ذات يوم إيصال "خروفين مجمدين" اشتراهما من الشركة المستوردة التي يعمل فيها إلى مكان محدد، وفي منتصف الطريق طلب منه المشتري تغيير اتجاه سيره إلى مكان آخر.

تكرار طلب المشتري من المندوب الأمر ذاته مرات عدة أثار الشكوك لدى الأخير، ما دفعه إلى البحث والتحري لمعرفة الحقيقة، حتى كشف أن المشتري يعمل جزارًا لبيع "اللحوم الطازجة" في أحد أسواق الضفة الغربية، وأنه يحتفظ بـ"الخراف المجمدة" في مكان بعيد عن أعين الناس، يتركها مدةً من الوقت حتى يذوب عنها الثلج، قبل أن ينقلها إلى محله ويبيعها على أنها طازجة للمستهلكين.

غياب الضمير

رئيس نقابة أصحاب الملاحم وتجار المواشي في الضفة الغربية عمر النبالي، أكد بدوره هو الآخر لصحيفة "فلسطين" صدق رواية مندوب المبيعات آنفة الذكر، مردفًا "للأسف، بيننا بائعون وتجار بلا ضمير، هدفهم كسب المال حتى لو على حساب حياة الناس".

وذهب النبالي إلى أبعد من ذلك في اتهامه جهات متنفذة في حكومة اشتية بالتواطؤ مع مستوردين ومُربّي وبائعي لحوم، لغض الطرف عن تجاوزاتهم، مقابل حصولهم على مكاسب مالية.

والجزار الذي يبيع اللحوم الحمراء المجمدة في محله على أنها طازجة لا يكتفي بممارسة غشّه على المستهلك، بل يضارب الجزارين الآخرين بالبيع بسعر أقل من السوق تحت ذريعة "مراعاة أوضاع الناس المعيشية" بحسب النبالي.

وأشار إلى إغلاق بعض محال الجزارة التي تبيع اللحوم المجمدة على أنها طازجة في محافظة بيت لحم.

وحسب معطيات نقابة أصحاب الملاحم وتجار المواشي يبلغ معدل الاستهلاك اليومي في الضفة الغربية من العجول (800) رأس، ومن الخراف (1200) رأس، وهي مرشحة للزيادة في أوقات الأعياد ومناسبات الأفراح.

"لا نتحمل المسؤولية"

شركة السلام للتبريد في مدينة الخليل، إحدى الشركات التي ورد ذكرها أثناء إعداد التحقيق، وحُمّلت جزءًا من المسؤولية، إلا أنها رفضت الاتهام، مؤكدة أنها شركة لاستيراد اللحوم المجمدة أصلًا، وليس لها علاقة بـ"سوء الاستخدام".

وأوضح المسؤول في الشركة هيثم الدميري أنّ شركتهم تستورد خرافًا وعجولًا مجمدة من إسبانيا والبرازيل، وتحفظها في حرارة دون 18 درجة مئوية تحت الصفر، وتبيعها للمستهلك على أنها مجمدة "لكن أن يعيد الجزارون بيعها على أنها طازجة، فهذا ليس من مسؤولية الشركة، بل الجهات الرقابية".

وأفاد بأنّ الشركة تقدمت بشكاوى رسمية إلى الشرطة والقضاء ضد بائعي لحوم وتجار "يبيعون منتجات الشركة على أنها طازجة، وقطعنا التعامل معهم لأنهم أضروا بسمعة الشركة، وأنشأنا نقطة بيع لمنتجاتنا إلى المستهلك مباشرة دون وسطاء".

وبيّن أنّ سعر كيلو جرام لحم الخروف المجمد يبدأ بـ45 شيقلًا، وسعر لحم جرام كيلو العجل المجمد يتراوح بين 19 إلى 28 شيقلًا، لذا فإنّ "الجزار الغشاش" يحقق أرباحًا عالية في كل كيلو جرام لحم يبيعه مستغلًّا جهل المستهلك، إذ إنّ سعر كيلو جرام لحم الخروف الطازج يبدأ من 65 شيقلًا ويصل إلى 90 شيقلًا، وكيلو جرام لحم العجل الطازج يبدأ من 35 شيقلًا ويرتفع السعر حسب نوع العجل.

وتنص المادة (21) في قانون حماية المستهلك الصادر عام 2005 على حماية وضمان حقوق المستهلك بما يكفل له عدم التعرض لأيّ مخاطر صحية أو غبن أو خسائر اقتصادية، ويضع القانون المخالف المادة عقوبة السجن، تصل إلى عشر سنوات وغرامة مالية تتجاوز عشرة آلاف دينار أردني، وفق المستشار القانوني فادي العريني.

واعتبر العريني في حديث لـ"فلسطين" بيع اللحوم بهذه الطريقة مخالفةً صريحةً لقانون حماية المستهلك "تصل إلى حد الجناية".

وبيّن أنّه في مثل هذه الحالات يتم تحرير محضر ضبط بالمخالفة وتحويلها إلى وزارة الاقتصاد التي بدورها تُحوّلها إلى النيابة العامة لأخذ الإجراءات القانونية بحق المخالف، وهناك تجري التحقيقات مع الجهة المخالفة مع توجيه لائحة اتهام لها، وتحويلها إلى المحكمة المختصة.

بكتيريا قاتلة

ما يفعله هؤلاء لا يقف عند مخالفتهم أنظمة قانون حماية المستهلك ومواده، بل يتسببون بأضرار صحية للمستهلك الذي يتناول هذه اللحوم، والخطورة تشتد إذا ما أعاد المشتري تجميد اللحوم لاستخدامها في وقت لاحق، حيث ينتج عن ذلك كله "بكتيريا قاتلة".

يُؤكد ما سبق أستاذ صحة اللحوم والأغذية بكلية الزراعة والطب البيطري في جامعة النجاح د.سامح أبو سير، مبينًا أنّ "البكتيريا الخاملة في اللحوم تعود للنشاط عند إزالة الثلج عنها، ما يتسبب عند تناولها بتسمم غذائي تصل خطورته إلى حد الوفاة".

وحذّر أبو سير في حديث لـ"فلسطين" المواطن من إعادة تجميد اللحم المذاب عنه الثلج لاستخدامه في وقت آخر، لأنّ البكتيريا في هذه الحالة تنشط بصورة أقوى وأسرع من السابق، مشددًا على حقّ المستهلك في معرفة نوعية اللحوم التي يشتريها وأعمار الذبائح ومصدرها وتاريخ صلاحيتها.

يثني على سابقه رئيس قسم الميكروبيولوجي بمختبر الصحة العامة التابع لوزارة الصحة بغزة د.هاشم عرفة بقوله: "إنّ ما يفعله هؤلاء الجزارون خطير ويهدد صحة المستهلك، لأنّ إبقاء اللحم المذاب عنه الثلج فترة من الوقت دون طهي يسمح بنمو بكتيريا خطيرة مثل: السالمونيلا التيفودية، والإشريكية القولونية، والمكورات العنقودية".

ونبّه عرفة في حديث لـ"فلسطين" إلى أنّ الأخطر في ذلك أنّ مشتري اللحم يعتقد أنها طازجة فيُخزّنها في ثلاجته وقد يُبقيها أيامًا وأسابيع، وهو غير مدرك أنها باتت تحتوي على البكتيريا المذكورة آنفًا، كما أنّ مذاق اللحم سيتغير.

وحسب مجموعة "مايو كلينك" ‏الطبية والبحثية بولاية مينيسوتا الأمريكية تُسبّب بكتيريا "السالمونيلا التيفودية" حُمّى لها مضاعفات خطيرة خاصة على كبار السن والخاضعين لزراعة الأعضاء والحوامل وذوي جهاز المناعة الضعيفة وحديثي الولادة والأطفال.

كما أنّ حالات عدوى "المكورات العنقودية" تصير مميتةً إذا أصابت البكتيريا أعماق الجسم أو دخلت إلى مجرى الدم، وإن أكثر الطرق الشائعة للإصابة بهذا المرض الأطعمة الملوثة وخاصة اللحم البقري المفروم.

ختم اللحوم

ولوضع حدٍّ لهذا التسيب، يطالب رئيس نقابة أصحاب الملاحم وتجار المواشي في الضفة الغربية وزارتي الزراعة والاقتصاد بحكومة اشتية بالتوقف عن ختم اللحوم المستوردة والمحلية بالختم ذاته، إذ ينبغي ختم اللحوم المنتَجة محليًّا بختم مختلف شكلًا ولونًا عن الختم الذي يُوضع على اللحوم المستوردة سواء كانت لحوم حمراء طازجة أو مجمدة.

ويدلل النبالي على أهمية تفريق الأختام بواقعة "توريد تجار خراف حية من الخارج إلى أسواق الضفة الغربية، حيث جرى ختمها على أنها محلية الإنتاج، وبيعت بسعر مرتفع".

ونبّه إلى أنّ محافظات الضفة الغربية تفتقر إلى "مسالخ مركزية"، حيث توجد مسالخ في رام الله ونابلس وجنين، ومسلخ قديم في أريحا، في حين تفتقر بقية المناطق إليها، موضحًا أنّ غيابها يساعد على بيع لحوم مخالفة للجودة والصحة العامة وخارج إطار القانون.

ونبّه إلى وجود نحو ألف جزار في الضفة الغربية، وأنّ جزءًا كبيرًا منهم غير حاصل على ترخيص عمل.

تقاذف المسؤولية

مُعد التحقيق، هاتَف وزارة الاقتصاد برام الله لمعرفة موقفها وحدود مسؤوليتها بشأن القضية، فأجابه المدير العام لحماية المستهلك إبراهيم القاضي بقوله إنه لم يصل الوزارة أي شكاوى حول بيع لحوم مجمدة للمستهلك على أنها طازجة "ومع ذلك ندعوكم لمتابعة الأمر مع وزارة الزراعة".

وأضاف القاضي في محادثته المقتضبة: "توجد مذكرة تفاهم بين وزارتي الاقتصاد والزراعة بشأن متابعة اللحوم، حيث يسند إلى الاقتصاد متابعة بيع اللحوم في المحال التجارية والأسواق الشعبية، في حين تسند إلى دائرة البيطرة بوزارة الزراعة مهمة متابعة اللحوم داخل المذابح والمسالخ".

بدوره أرسل مُعد التحقيق لوزارة الزراعة برام الله كتابًا رسميًّا لأخذ رأيها بشأن القضية، فتلقى اتصالًا هاتفيًّا من موظفة في الوزارة تقول نقلًا عن مكتب الوكيل: "نُبلغكم أنّ هذه القضية ليست من اختصاص وزارة الزراعة، وأنه يمكنكم متابعتها مع وزارة الاقتصاد".

المسؤولية مشتركة

رئيس جمعية حماية المستهلك عزمي الشيوخي يؤكد أنّ المسؤولية مشتركة بين كل وزارات الاقتصاد والزراعة والصحة والبلديات في متابعة اللحوم الحمراء والبيضاء التي تُباع للمستهلك، وأنه لا يمكن القبول بإلقاء كلّ جهة المسؤولية تجاه الأخرى، فحياة المستهلك فوق كل شيء.

وأوضح الشيوخي لـ"فلسطين" أنّ مزارع تربية اللحوم الحمراء والبيضاء هي من متابعة وزارة الزراعة، وحينما تُسوّق منتجاتها في الأسواق تنتقل مسؤوليتها إلى وزارة الاقتصاد والصحة والبلديات.

وشدّد الشيوخي على أنّ اللحوم التي يتم إذابة الثلج عنها لا يصلح بيعها للمستهلك، بل تُصادَر وتُتلَف، ويُعاقَب من يفعل ذلك لأنه يخالف أنظمة قانون حماية المستهلك.

وأمام هذه الكارثة، تبقى حياة المستهلك وصحته وسلامة أفراد أسرته رهينة تجار وبائعي اللحوم الطامعين بالكسب غير المشروع، وحكومة رام الله وبلدياتها ومؤسساتها الهاربة من مسؤولياتها.