الاستظلال بالمسجد الأقصى هو أجمل ما يمكن أن تعيشه المرابطة إسلام مناصرة، التي تواظب منذ أكثر من عقدٍ على الرباط في ساحاته، على مشقة الطريق واعتداءات الاحتلال، فإيمانها بأهمية دورها ودور فلسطينيي الـ48 في الحفاظ عليه يجعلها تترك كل انشغالاتها وتتجشم المعاناة حتى في أحلك الظروف، لئلا يترك الأقصى وحيدًا.
فالمرابطة إسلام أحمد مناصرة (محاميد) من مدينة أم الفحم في الداخل المحتل ترى الرباط في الأقصى حياة وواجبًا وهوية، وعقيدة راسخة ترعرعت عليها منذ نعومة أظفارها وكبرت معها.
تقول السيدة الأربعينية: "والدي (رحمه الله) غرس فينا عقيدة حب الأقصى منذ الصغر، وتربينا على أن الأقصى عقيدة ومسرى رسول الله وواجب علينا الرباط فيه والدفاع عنه".
وتتابع: "كان والدي يصطحبنا دائمًا إلى المخيمات المعقودة في الأقصى قبيل تسيير الحافلات إلى المسجد ومسيرات البيارق، كان ينتهز كل فرصة لأخذنا للمسجد مع أنه يبعد عنا قرابة ساعة ونصف سفرًا بالسيارة، لكن إصراره على تعريفنا الأقصى ومعالمه وأهميته للإسلام والمسلمين وأهمية الحفاظ عليه غلب خوفه علينا من عناء الطريق".
والأمر كذلك عند والدة مناصرة، التي تجاوزت السبعين من العمر، فإنها منذ عشرين عامًا تخصص يوم الخميس من كل أسبوع للرباط في المسجد الأقصى، ولا تُخل بذلك اللقاء إلا لظروف قاهرة جدًّا، وتردد دائمًا: "هناك أشفى وأرتاح، هناك دنياي وديني".
وتحظى "إسلام" بدعم زوجها وأشقائها في رباطها بكل الطرق المعنوية، خاصة مع انعكاس الرباط على عائلات المرابطات التي تعاني معهن من اقتحام البيوت، وتدخل مخابرات الاحتلال في حياتهن، "وهو أمر ليس من السهل الصمود أمامه، خاصة أن المجتمعات العربية تتعامل بحساسية مع ضرب المرأة واعتقالها".
حالة نفسية
في البداية واجهت "إسلام" مخاوف أبنائها إذ أصيب ابنها الصغير بحالة نفسية بسبب الخوف عليها، لكن تدريجًا تحول الخوف إلى تبني قضيتها، والإيمان بأن ما تفعله هو واجب، تقول: "فأصبح أبنائي يفتخرون بي كثيرًا ويدعمونني في مسيرتي، فحبهم للأقصى لا يقل عن حبي له، وهم حريصون على زيارته والدفاع عنه، فقد أصبحت عائلتنا أقصاوية".
تتابع القول: "كل ما واجهناه من تحديات في بداياتنا، ومخاوفنا من الاعتقال ومشقة السفر تلاشت جميعها مع إصرارنا على حقنا في الدفاع عن مسجدنا الأقصى، ونحن نرى أن الله شرفنا بهذا الدور بدءًا من مشقة السفر حتى معاناتنا على الأبواب ورؤية جنود الاحتلال الذين يتعرضون لنا".
قبل أكثر من عقد بدأت عمليات تسيير الحافلات من الأراضي المحتلة عام 48 إلى المسجد الأقصى يومين في الأسبوع، ومنذ ذلك الحين تلتزم "إسلام" الذهاب إلى الأقصى يومًا واحدًا في الأسبوع، على مشقة السفر ومسئولية البيت والأولاد، إذ ترتاح هناك من عناء الحياة.
وتضيف: "لكن في السنوات الخمس الأخيرة أصبح هذا اليوم يجمعني رسميًّا بالمرابطات من القدس والداخل الفلسطيني، فتعاهدنا على الوجود في الأقصى والرباط فيه والدفاع عنه، وألا نترك المسجد أبدًا".
وتربط إسلام بصديقاتها المرابطات علاقة عائلية وثيقة، فيتزاورن وبتن حلقة وصل لتعارف الأزواج والأبناء، تقول: "أصبحنا عائلة كبيرة إذ تعارف أزواجنا وأبناؤنا وأحفادنا وجيراننا وأقاربنا الذين جميعًا تعلموا منا القوة، وحب الرباط الذي يشرِّف جميع مَنْ يقوم به، فنحن يساند ويؤازر بعضنا بعضًا في المسجد الأقصى المبارك".
وتكمل قائلة: "للمكوث في الأقصى متعة مع جمال باحاته وإطلالته وروحانياته، لكن هناك ألم، إذ نضرب ونسحل، لكن لا يزيدنا ذلك إلا قوة وترابطًا وإصرارًا على الرباط، فقد بنينا نسيجًا رائعًا مميزًا من ثقافات مختلفة من أهل القدس والداخل والشمال والجنوب".
واعتقلت "إسلام" عدة مرات، تضيف: "وفي كل مرة عند دخولي المسجد الأقصى يوقفونني ويصورونني ويصادرون هويتي ليضمنوا وفقًا لمزاعمهم ألا أرتكب ما يخل بالأمن والنظام، وأحيانًا يمنعونني من الدخول حتى انتهاء اقتحامات المستوطنين، وهو ظلم كبير، فأُحرم الدخول ويسرح المستوطنون في المكان".
لا نعرف النوم
وتمضي إسلام إلى القول: "في إحدى المرات ضربني عناصر شرطة الاحتلال بالهراوات التي يحملونها، واعتقلت ليلة كاملة أنا وعدد من المرابطات، لكننا مع تلك الاعتداءات نشعر بأننا قد أدينا دورنا تجاه الأقصى، وعبرنا عن غضبنا لتدنيس المستوطنين له، ولم نسكت عن عربدتهم فيه".
ورمضان يُمثل الوقت الأكبر للرباط، وفقًا لحديث مناصرة، التي تسترسل: "ندافع عن الأقصى منذ ساعات الفجر، فلا نعرف النوم، ونترقب اقتحامات المستوطنين وجيش الاحتلال الذين يعتدون علينا، ويضربوننا ويحاصروننا داخل المصليات، ويرموننا بالقنابل المسيلة للدموع والرصاص الحي والمطاطي".
وتتابع القول: "في كل لحظة كنا عرضة لفقدان حياتنا، لا يفرقون بين صغير وكبير، ولا رجل وامرأة، تزعجهم تكبيراتنا ووجودنا في المسجد الأقصى".
وفي رمضان الفائت أخرج جنود الاحتلال "إسلام" من الأقصى بالقوة وضربوها، وعند باب السلسلة كانت تبكي، ولكنها تمالكت نفسها ووقفت في وجه جنود الاحتلال، وبكل قوة عبرت عن الغضب في داخلها، تقول: "تفاجأت بانتشار الفيديو عالميًّا، وبعدها بأسبوع اعتقلت وأبعدت عن الأقصى عقابًا لي على الضجة التي أثرتها".
وتؤكد إسلام أن أهل الداخل هم الجدار الأول للأقصى، قائلة: "حملنا الهوية الزرقاء يسهل دخولنا وخروجنا من القدس المحتلة، ولولا وقوف فلسطينيي الـ48 مع المسجد الأقصى وتسيير الحافلات إلى هناك ودعمهم المادي للفقراء، ودورهم المفصلي؛ لما دبت الحياة في البلدة القديمة والأقصى".