جاء الأرمن إلى فلسطين بهدف الحجيج إلى بيت المقدس في القرن الرابع الميلادي، وهم أول من أسسوا مراكز الضيافة والخانات في فلسطين لاستقبال الحجيج، وحسب التقليد الأرمني على كل من يعتنق المسيحية أن يحج إلى القدس.
وعلى مر العصور حج إلى القدس العديد من مشاهير ملوك الأرمن والملكات والأمراء ورجال الدولة، حاملين معهم الهدايا التذكارية.
وحي الأرمن "مار يعقوب" أصغر أحياء البلدة القديمة، ويمثل نحو 17% من مساحة البلدة، و80% من مساحة الحي عبارة عن دير، وقد سمي بهذا الاسم نسبة إلى الأرمن الذين أتوا القدس من تركيا، كما يبين مدير مؤسسة تنمية الشباب في جمعية الدراسات العربية – القدس، مازن الجعبري.
ويوضح الجعبري أن الحي يقع جنوب غربي البلدة القديمة على جبل صهيون، وتشغل مساحته 300 دونم، أي ما يعادل سدس مساحة البلدة.
ويتكون من مجموعة من البيوت كانت في السابق مأوى للحجاج، وأصبحت لاحقًا بيوتًا مؤجرة للأرمن، إضافة إلى دير الأرمن المكون من حيز للعبادة ومدرسة ومتحف وعيادة طبية.
ويلفت النظر إلى أن الحي من أقدم الأحياء في مدينة القدس، ويتبع سكانه الديانة المسيحية الأرثوذكسية، وتملك البطريركية ثاني أضخم مكتبة أرمنية للمخطوطات في العالم، وأقدم مطبعة في القدس أسست عام 1833.
ويقول الجعبري لـ"فلسطين": "إن أحياء القدس كانت مقسمة دومًا، ولكنها لم تكن على مر التاريخ بشكل التقسيم الذي هي عليه اليوم، فهذا النوع من التسميات ليس متعارفًا في ثقافة أهالي المدينة".
ويذكر أن هذا التقسيم أوجده الاحتلال البريطاني، إذ أخذ في الحسبان المركز الديني لكل طائفة، وعلى هذا الأساس قسم الأحياء بالشكل القائم حاليًّا.
ويضيف: "تقسيم القدس قديمًا قبل الاحتلال البريطاني لم يحدد أماكن للمسلمين أو المسيحيين، فمظاهر الاختلاط والتعايش بين الديانات المختلفة كانت تصل إلى داخل البيوت الفلسطينية".
عزلة اجتماعية
وينبه الجعبري إلى أن الأرمن يعيشون في انعزال؛ فقليل منهم اختلط بباقي سكان القدس، وعبر التاريخ يعيش الأرمن منعزلين عن المجتمع، وهم منفصلون عن الطوائف المسيحية الأخرى، وموجودون في فلسطين منذ مئات السنين، وقد أعطاهم عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) الحماية وغيرهم من المسحيين.
وتشير المراجع التاريخية إلى إعلان البطريرك الأرمني الأول بالقدس "أبراهام" عام 638م، الذي حصل على مرسوم اعتراف رسمي من الخليفة عمر بن الخطاب، الذي عدد فيه حقوق وامتيازات الكنيسة الأرمنية بالأراضي المقدسة، حرصًا على حمايتها وسلامتها، ونقش هذا المرسوم على مدخل دير الأرمن الموجود حتى يومنا هذا.
أما العلاقات الاجتماعية في حي الأرمن فيصفها الجعبري بأنها عادية، كلٌّ يعرف بعضهم بعضًا، ولكن ذلك لا يدل على أنهم مترابطون، وإنما يدل على احترام خصوصيات الآخرين وعدم التدخل.
ووفقًا لحديث الأب بكراد برجكيان؛ إن الأرمن كانوا وما زالوا أوفياء لفلسطين في كل المدن التي حلّوا عليها ضيوفًا، ويرفضون رفضًا قاطعًا أن يرضخ دير الأرمن للسيطرة الإسرائيلية.
ويعبر برجكيان عن حزنه لقساوة الظروف المعيشية في القدس التي تدفع بالشباب الأرمن إلى السفر خارج فلسطين، بهدف التعليم الجامعي، وإيجاد فرص عمل.
ويقول: "نبكي عند سفر كل شاب من الطائفة، لأننا نعتقد أن لكل شعب وديانة طقوسًا خاصة لا بد من المحافظة عليها، ولا نريد أن تختفي هذه الطائفة من القدس رغم صعوبة العيش فيها".
وصل عدد الأرمن قبل عام 1967 إلى نحو 25 ألف نسمة في أنحاء فلسطين، لكن معظمهم هاجر بعد احتلال مدينة القدس، ويراوح عدد سكان الحي الأرمني حاليًّا من ثلاثة إلى خمسة آلاف نسمة.
ويعود عدم حسم عدد السكان بدقة لسفر العديد من الأرمن خارج البلاد لتلقي التعليم الجامعي، والبحث عن فرص عمل.
وعلى مدار التاريخ امتاز الأرمن بذكائهم الحرفي والصناعي، فهم أول من جلب الطباعة لمدينة القدس بتأسيسهم مطبعة داخل الدير عام 1833، وما زالت تعمل حتى هذا اليوم بمقر ومعدات حديثة، إضافة إلى تأسيسهم أول مصنع للسيراميك في عهد الاحتلال البريطاني بالقدس.
وكان الأرمن أول من أدخلوا مهنة التصوير الفوتوغرافي لمدينة القدس، ورغم انتشار هذه المهنة واسعًا حافظ الأرمن على مكانتهم الاحترافية المتميزة في التصوير، وكذلك إتقانهم الخياطة وصياغة المجوهرات.