لفت نظري تعليق جهات رسمية أوروبية على العدوان الإسرائيلي الجديد على قطاع غزة، والذي أودى بحياة 49 فلسطينياً منهم 18 طفلاً، إذ طالب التعليق الأوروبي "بتحقيق شامل ومحايد في قتل المدنيين، ولا سيما النساء والأطفال". ورغم أن هذه المطالبة أمر إيجابي، فإننا نعلم جميعاً أنها لن تلقى أي اهتمام من الطرف المجرم، أي حكام (إسرائيل) وقادة جيشها. وحكومات العالم تعرف أن (إسرائيل) تواصل منع جميع لجان التحقيق الدولية في جرائمها من الوصول إلى فلسطين، وترفض التعامل معها، بل لا تتورّع عن وصف أعضائها باللاسامية.
وقبل المطالبة بالتحقيق في جريمة الاحتلال أخيراً في غزّة، كانت هناك مطالبات رفضتها (إسرائيل) من عدد كبير جداً من الدول بتحقيق نزيه ومحايد في مقتل الصحافية شيرين أبو عاقلة، مع أن وقائع إعدامها ميدانياً كانت واضحة، ومؤكّدة حتى من دون أي تحقيق. وقبل أيام، قتل جيش الاحتلال الشاب محمد شحام، وعمره 21 عاماً، بإطلاق الرصاص من مسافة صفر على رأسه في الساعة الثالثة صباحاً في منزله، وتركوه ينزف أمام عائلته أربعين دقيقة حتى الموت، ثم قال أحد الضباط لوالدته إنهم قتلوه خطأ، لأنهم دخلوا المنزل الخطأ. كان محمد عاملاً كادحاً، يرعى اثنين من إخوته المكفوفين، وفطرت أمه قلوبنا، وهي تنوح يوم استشهاده، وتقول "قتلتوه بالخطأ، أعيدوه لي بالخطأ"... لم يكن القتل خطأً، بل نهجاً يتبعه جيش الاحتلال ببرودة ووحشية، كانت حصيلتها منذ بداية العام وحتى كتابة هذا المقال 134 شهيداً فلسطينياً، معظمهم من المدنيين، بمن فيهم عشرات النساء والأطفال.
لم يُحقق أحد، ولم يُعاقب أحد على قتل المسعفة رزان النجار وهي تسعف الجرحى في قطاع غزّة. ولم يحاسَب أحد على قتل الشاب ساجد مزهر ابن الـ16 عاماً، وهو يحاول إسعاف جريح في مخيم الدهيشة، وكلاهما متطوعان في الإغاثة الطبية الفلسطينية. ولم يجر تحقيق، أو محاسبة لقتلة عايدة سباتين، وهي أرملة عمرها 46 عاماً، وأم لستة أطفال، كانت تعاني من عجزٍ في البصر، أطلق جنود الاحتلال النار عليها أمام حاجز عسكري في منطقة بيت لحم، وتركوها تنزف حتى الموت.
لم تعد المطالبة بالتحقيق تشفي غليلاً، أو تحقّق هدفاً، بل صارت، للأسف، وسيلةً للهروب من المسؤولية، وتجنّباً لمحاسبة (إسرائيل) وحكامها، ونموذجاً لازدواجية المعايير، عند المقارنة بين ما تفعله الحكومات، التي تكتفي بالمطالبة بالتحقيق في حالة فلسطين، وتفرض ستة آلاف عقوبة على روسيا في غضون شهر واحد من الحرب الأوكرانية. وتنطبق المقارنة نفسها على موضوع إحالة جرائم الحرب الإسرائيلية إلى محكمة الجنايات الدولية. إذ تلقت هذه المحكمة ما يكفي من القضايا والأدلة الدامغة للبدء بالتحقيق، بل حسمت هيئتها القضائية الذرائع بقرارها انطباق معايير التحقيق في محكمة الجنايات على فلسطين. ومع ذلك، يُخضع المدعي العام للمحكمة كريم خان، وهو بريطاني الجنسية، نفسه للضغوط الأميركية والإسرائيلية، ويواصل التهرّب من فتح تحقيق في فلسطين، في قضايا عمر بعضها 13 عاماً، بينما يبدأ التحقيقات في أوكرانيا بعد أقل من شهرين على بدء الحرب فيها.
واللجنة الفلسطينية المخولة بمتابعة قضايا محكمة الجنايات الدولية لم تجتمع منذ أكثر من عامين، ومع كل جريمة جديدة تتعالى الأصوات والتهديدات بإحالة هذه الجرائم إلى محكمة الجنايات الدولية، وكأن اسمها صار شمّاعة لترحيل العجز عن القيام بجهد جاد في مواجهة هذه الجرائم الإسرائيلية المتتالية.
لا تُغني المطالبة بالتحقيق ولا تعوّض عن الفعل الحقيقي المطلوب، وهو فرض العقوبات والمقاطعة على نظام الاحتلال والأبارتهايد الإسرائيلي. وذلك أمرٌ تستطيع القيام به كل حكومة، وحزب، وبرلمان، ومؤسّسة وشركة، من دون الحاجة إلى إذن من أحد، أو قرار جماعي من هياكل تنتمي إليها. ولكن ما نراه حتى اليوم، وباستثناء حركة المقاطعة وفرض العقوبات (BDS) وما تقوم به منظمات التضامن مع الشعب الفلسطيني هو تهرّب متواصل من مجرّد فكرة فرض العقوبات على نظام يمارس الاحتلال الأطول في التاريخ الحديث، ونظام الأبارتهايد العنصري الأسوأ في تاريخ البشرية.
ورغم كل الجرائم، المخفية والواضحة، تواصل معظم الحكومات الغربية السماح لـ(إسرائيل) بأن تكون فوق القانون الدولي، مُتمتعة بحصانة كاملة من المحاسبة والمساءلة، بل تُمارس بعض الحكومات العقوبات ضد من يدعون إلى مقاطعة نظام الاحتلال، وتفرض تصنيفات الإرهاب على من يناضلون ضد القهر والظلم والاضطهاد العنصري الإسرائيلي. أما بعض الحكومات العربية فتنغمس، على عكس رغبات شعوبها وإرادتها، في التطبيع مع إسرائيل، وتبحث في ثنايا الخلافات الفلسطينية عن مبرّر لسلوكها غير المبرّر تجاه الشعب الفلسطيني، وتجاه القانون الدولي نفسه.
أدرك الشعب الفلسطيني، وأجياله الشابة عبر التجارب القاسية، أنّ الاحتلال لن يرتدع إلّا بتغيير ميزان القوى، وأنّه لا يفهم إلّا لغة القوة، وأنّ تغيير ميزان القوى لا يتحقّق إلا بالمقاومة بكل أشكالها على الأرض، وبحملة دولية شاملة لفرض المقاطعة والعقوبات على منظومة الاحتلال. وهو لن يعارض النيات الحسنة لمن يطالبون، المرّة تلو الأخرى، بالتحقيق، ولكنه لا يستطيع أن يسمح لأيٍّ كان باستخدام تلك المطالبات للتهرّب من المسؤولية الأخلاقية، والقانونية، والإنسانية، تجاه الظلم الفادح الذي يتعرّض له الشعب الفلسطيني، أو لتخدير الضمائر التي تضطرب مع كلّ جريمة إسرائيلية جديدة.