لم يَكُن مُفاجِئًا خطاب الرئيس عباس الذي خلا من أي جديد، ولكن الطريف العجيب فيما تَلاه هو التعابير البائِسة التي خرج بها عن النص، ويا ليته لم يفعل ذلك!
وقد أكَّد في البدء أن مَسيرةَ ما أُسْمِيَ "التسوية السياسية" وكان هو عَرَّابها قد فَشَلَت في تحقيق أي تقدم.
أما الأفْدَحُ والأنكى أنه كرَّرَ استعداده لِتَجْريب المُجَرَّب بعد 23 عامًا من اللُهاث الماراثوني على طريق تسارُع الاستيطان والتهويد والإِبْعاد، وتدمير المنازل والقتل لأبناء شعبنا الفلسطيني الصابر والصامد، عباس يُجَدِدُ القَول مع كل شيء: "إننا نَمُدُّ أيدينا للسلام"، وكان برنامَجهُ في مواجهة ذلك هو الاستعداد للعودة إلى المفاوضات، في أي وقت، وأي مكان، ودون شروطٍ مُسبقة، ويكتفي _ويا للعجب!_ بتبرير كل المصائب التي حَلَّت بالشعب من وراء هذا العَبَث الكارثيّ بالقول: "ليس الذنب ذنبنا، ولسنا مسؤولين".
وأشار عباس "بِفَخْر" إلى أنه كان حلقة الوَصْل وراء الاتصال بعتاة الصهاينة في بداية السبعينيات، حين جَالَ د. عصام السرطاوي في أرجاء القارّة الأوروبية بحثًا عن مسؤولين من كيان الاحتلال الذي كان يرفض مبدأ الاعتراف بوجود الشعب الفلسطيني من حيث المبدأ، وقد اغتيل السرطاوي، ولكن فكرة التفاوض والتعاون مع الصهاينة لَمّا تَجِد من يَبتُرها من رأس الرئيس.
وفي سياق خِطابِهِ تَنَكَّرَ الرئيس لثورات الشعوب العربية، مُعْلِنًا أنه ضد ما أسماهُ "الربيع العربي"، وكأن النُظُم القمعية العربية في كُلٍّ من تونس ومصر وسوريا واليمن وغيرها كانت نُظُمًا راشدة وديمقراطية، لقد تماهى فخامة الرئيس مع سَدَنة النظام الرسمي العَربي إلى الحد الذي لم يذكر فيه كلمة واحدة عن معاناة ملايين اللاجئين الفلسطينيين الذين يواجهون الحِصار والتجويع والقتل والاعتقال في تلك الدول وعلى يد هؤلاء القادة، وعَبَّر عن "حِكْمَتِهِ" الغائبة حين نادى بضرورة الحوار بين الثوار والمسؤولين العرب، في الوقت الذي لم يحاور فيه أحدًا على الساحة الفلسطينية، واستمر سادرًا في غِيّهِ حتى مع "رفاقه" من قادة وأبناء حركة فتح التي أضحى قائدها العام والمُزمِن.
وإذا مَدَدْنا هذا الأمر على استقامته فإن مندوبي حركة "فتح" للمؤتمر من ممثلي اللاجئين الفلسطينيين _وهم يشكلون نصف الشعب الفلسطيني في أقطار اللجوء والشتات_ لم يتجاوزوا مائة مندوب من أصل نحو 1420 مندوبًا مجمل عضوية المؤتمر السابع.
وكانت عضوية المؤتمر "العائلي" مُسْبَقَةَ الصُنْع بالتفاصيل، كي تَضْمَن ولاءً مُطْلقًا بأغلبية تَصُبُّ عند التصويت في مصلحتهِ ومصلحة فريقهِ الأَقْرَب.
وقد عَكَفَ عباس مع بطانته وقادة أجهزته الأمنية على تمحيص القوائم، مُستفيدين بالقطع من السِّيَر الذاتية لكل مندوب مؤتمر مع السلطات الأمنية للاحتلال التي قامت بالفحص المطلوب ومنع دخول العديد مِنهم، وقد خَصّوا بالرعاية مندوبي قطاع غزة، وهو "الإقليم المتمرد" على حد وصف "رئيس الشعب الفلسطيني" الذي أفْرَدَ "بِكَرَمِهِ الحاني" مَقاعِد لِثلاثُمائَة مندوب فقط عن القطاع، وقد استثنى وعَزَل المئات منهم.
وليس سرًّا أن نكشف أن المندوبين الثلاثمائة الذين شاركوا منقسمون إلى 3 جَماعات: إحداها من أزلام توفيق الطيراوي، والثانية لنبيل شعث، والثالثة لجبريل الرجوب، وقد خَلّفوا وراءهم العشرات ممن يرون أنهم واجهوا إقصاء من الرئيس، أو أن هناك شكًّا في أن ولاءهم لمحمد دحلان الذي يُعِدُّ العُدَّةَ للرد على شريكه في التآمر على الشهيد القائد ياسر عرفات، وهما (عباس ودحلان) يتسارعان لتقديم الخدمة الأفضل للاحتلال.
أما غَزَّة العِزَّةَ التي مَرَّغَت دَومًا أنف العدو في الوحل _وخاصَّةً على مدار العقد الماضي_ فإن عباس تجاهل حصارها الخانِق والبطالة والدمار الهائل وانقطاع الكهرباء والمياه النظيفة، والأمراض التي يُعاني تحت غائِلَتِها مليونا مواطن فلسطيني، واكتفى بالشعارات وبتكرار الكذب الممجوج، وأهل غزة يعلمون يقينًا أن "رئيسهم" يساند هذا الحصار وهو أحد أهم الداعين والمؤيدين له.
لقد دافَعَ "الرئيس" بحرارة عن عار مشاركتِهِ في جنازة القاتل شيمون بيريز رئيس كيان العدو السابق، مستنكرًا كل الانتقادات لهذا الفِعل الشائِن، وأشادَ بمشاركة أطقم الدفاع المدني في إطفاء الحرائق التي انتشرت في غير مكان من فلسطين المحتلة، مُضيفًا: "إن العلاقات الإنسانية تتطلب ذلك"، وقد نَعَتَ المُعارضين لِرَدِّهِ على شُكْر رئيس وزراء كيان العدو بأن "هذه جَلّيطَة"، وعقب: "واللّي مش عاجبو يصطفل"، مُستخدِمًا لُغةً هابِطةً لا تليق بأحد، في الوقت الذي اعتقل فيه العدو خلال أسبوع الحرائق أكثر من 150 مواطنًا فلسطينيًّا من الضفة والقدس والداخل الفلسطيني المُحتل، وأعدم خمسة مواطنين، ودَمَّرَ عددًا من المنازل، وتوَسَّعَ ببناء آلاف الوحدات السكنية الاستيطانية الجديدة.
وقدم عباس أنموذجًا لديكتاتورية النُظُم الاستبدادية _وهو الذي لا سُلطة أو سيادة لَهُ على شِبرٍ من فلسطين المحتلة_ حين هَدَّدَ بِقَطع يد من يَعبث بالأمن، وكَأنَّ شعبنا ليس تحت احتلال نازي دموي إجلائي، يَحرِمه رغيف الخبز والأمان والأرض والحياة، وقد تقمَّصَ عباس شخصية الطاغية السادات وتهديداته "بِفَرْمِ" مُعارضيه.
ولاحظ الجميع أنه لم يذكر كلمة واحدة عن الكفاح المُسلح، الذي كان العلامَةَ الفارقة لحركة فتح التي انطلقت لتحرير الوطن كُلّهِ وقدمت الشهداء العِظام على هذا الطريق المُقدس، وجاءَ عباس ليختطف هذه الحركة المناضلة من تاريخها وإنجازاتها، وليمنع حتى أنشطة المقاومة الشعبية السِلْمية الناعِمة والذكيّة _كما وسَمَها_ وهو يتصدى ويقمع ويعتقل المتظاهرين ويمنعهم من الاقتراب من المستوطنات وحواجز جيش الاحتلال. وعجبًا أنه مع ذلك كله أصَرَّ وأكَّد عباس أن عام 2017م ميلادية سيكون عام قيام الدولة الفلسطينية المستقلة وتجسيدها.
وكان الرئيس قد وجه نداءً إلى حركة حماس، يدعوها فيه لإنهاء "الانقسام البغيض" عبر بوابة الديمقراطية، يقول ذلك دون خَجَلٍ أو وَجلٍ وهو الذي قام بانقلابه الدموي بتمرد الأجهزة الأمنية لسلطة حركة فتح، والعصيان المدني لأكثر من 50 ألفًا من الموظفين المدنيين بأمر شخصي منه، رفضًا لإرادة وخيار الشعب الحُر والديمقراطي في انتخابات المجلس التشريعي يوم 25 كانون الثاني 2006م ميلادية، وهو الانقلاب الذي يَسْتَمِرُّ فصولًا حتى اليوم في الضفة الفلسطينية المحتلة، أما في قطاع غزة فقد استعادت حركة حماس شرعية إدارة الشأن العام، إنفاذًا لخيار الشعب الديمقراطي في 14/6/2007م ميلادية الذي أعطاها فيه أصواته بأغلبية 60%، وردًّا على الفلتان الأمني والاغتيالات الدموية التي خطط لها عباس ومارسها أزلامه.
كثيرةٌ، ويَصعُب حصرها جميعًا تلك السقطات التي جاءت في خطاب عباس الذي انتخب بعد 32 ثانية من بدء أعمال مؤتمر فتح السابع، في سابقة كرنفالية طريفةٍ داس فيها على كل المُثل الديمقراطية، وسط تطبيل وتهريج (الكومبارس)، وقبل مناقشة التقارير التنظيمية والسياسية والمالية (...)، وتحديد المسؤوليات، وفتح الباب للترشيحات للهيئات القيادية، التي تجرى عادة بعد كل المراجعات التي تعقد المؤتمرات لإنجازها.
مؤتمر فتح السابع يعقد في ظروف جِدُّ معقدة ومتوترة وموتورة ومتشظية على المستوى التنظيمي الداخلي، ومعارضة من كل فصائل العمل الوطني لسياساته وممارساته القمعية والفاسدة ومع الإقليم العربي، ووِفقًا لسيناريو يُطلُّ منه الاحتلال من كثب على كل التفاصيل وَيَتحكم في كل مُدخلاته ومُخرجاته.
ولكن الشعب المرابط ومقاومته الباسلة المنتصرة يعلمان يقينًا أن فاقد الشيء لا يُعطيه، وستُضيف نتائج هذا المؤتمر الكثير إلى عملية الفرز الجارية اليوم بتسارع لمصلحة برنامج مواجهة هذا العدو، وكل الذين يقدسون التخابر معه.