السوريون شعب منسي، كل الآلام التي مرت عليه خلال السنوات الست الماضية لم تحرّك هذا العالم الذي ينظر إلى المحرقة السورية، ويدير وجهه عنها، لا يريد أن يراها، لأنه لا يريد أن يفعل شيئًا لهذا الشعب الذي عانى الأمرّين، وتعرّض لكل وسائل القتل البشعة، من إلقاء السلاح الكيماوي إلى البراميل المتفجرة من الطائرات على المدنيين إلى القتل في المعتقلات. وإلى جانب بشاعة النظام، عانت الأماكن التي خضعت لتنظيم الدولة وغيرها من الفصائل المتطرّفة إلى ألوانٍ من قتل موازية لقتل النظام. إنها مذبحة القرن الحادي والعشرين المعلنة، والتي يصمت عنها العالم بكل وقاحة.
بين السوريين المنسيين، هناك منسيون داخل المنسيين، يعانون من الظروف نفسها التي يعاني منها السوريون. إنهم فلسطينيو سوريا الذين عانوا الأمرّين في المحرقة السورية. وإذا كان القانون السوري في عام 1956 أيام البرلمان الديمقراطي في سوريا قد ساوى بين الفلسطيني والسوري، من حيث "التوظيف والعمل والتجارة..."، فإن الزمن الأسدي ساوى الاستبداد الدموي بين الفلسطيني والسوري، في الاعتقال والقتل والتجويع والإمطار بالبراميل المتفجرة.
النداء الذي وجهته وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) الذي أطلقته بداية العالم الجاري يبين مأساوية الأوضاع التي يعيشها الفلسطينيون في سوريا، وشمولها تقريبا جميع الفلسطينيين الذين ما زالوا يعيشون على الأراضي السورية. يقول النداء: خلال عام 2016، استمر الصراع في سوريا بصورة عنيفة، وغير خاضعة للتنبؤ، ما أدّى إلى فقدان مزيد من أرواح المدنيين والدمار المادي. ومن بين حوالي 450.000 لاجئ فلسطيني لا يزالون داخل سوريا، يقدّر أن ما يزيد على 95% (430.000 شخص) في حاجة ماسّة لمساعدات إنسانية مستمرة، من أجل البقاء على قيد الحياة، وحوالي 280.000 مهجرون داخليًا، فيما أن قرابة 43.000 عالقون في أماكن يصعب أو يتعذّر الوصول إليها، مثل اليرموك وخان الشيح والمزيريب وجلين في درعا.
ويظل تقديم المساعدات والخدمات الحيوية للاجئين الفلسطينيين يشكل تحديًا رئيسًا بالنسبة للوكالة. نزح أكثر من 120.000 من اللاجئين الفلسطينيين من سوريا عن البلاد، واتجه حوالي 31.000 منهم إلى لبنان وقرابة 16.000 إلى الأردن. ويضطر لاجئون فلسطينيون عديدون من سوريا في لبنان والأردن إلى العيش في ظروفٍ محفوفة بالمخاطر ومهمشة، بسبب وضعهم القانوني غير الواضح، وهم يحصلون على قدر محدود من الحماية الاجتماعية. ما يجعلهم معتمدين بشدة على "أونروا" في تلبية احتياجاتهم الأساسية.
ستحتاج "أونروا" في عام 2017 إلى 411 مليون دولار أميركي، لتنفيذ استجابتها الإنسانية لأزمة سوريا. وستسترشد هذه الاستجابة بالأولويات الاستراتيجية الثلاث: الحفاظ على قدرات الصمود والتحمل من خلال تقديم المساعدات الإنسانية على شكل مساعدات نقدية وغذائية ومواد إغاثة. وتوفير إطار حماية للاجئين الفلسطينيين من خلال المساعدة في تخفيف حدّة ضعفهم، عن طريق الحفاظ على قدرتهم على الوصول إلى الخدمات الأساسية، ومنها التعليم والصحة والمياه والصرف الصحي والنظافة وسبل كسب العيش. (الاستجابة لأزمة سورية الإقليمية-النداء الطارئ).
ما لم يقله تقرير "أونروا"، ما الذي أوصل أوضاع الفلسطينيين في سوريا إلى هذا الدرك، وهو شيء مفهوم، طالما تعمل "أونروا" على الأراضي السورية ألا تتحدّث عن إجراءات القمع الوحشية للنظام السوري. لذلك، لم يتطرّق التقرير إلى المعتقلين الفلسطينيين الذين لا أحد يعرف عددهم بالضبط (يقدر عددهم بحوالي 13.000 قتل منهم حوالي 700). ولا يتحدّث عن سياسة التهجير القسري التي يعتمدها النظام ضد الفلسطينيين، كما يعتمدها ضد السوريين. فلم يُعِد النظام أيا من سكان مخيم السبينة وتجمع الحسينية، على الرغم من أنهما تحت سيطرته منذ ثلاث سنوات، كما لم يعد أحد من السوريين سكان داريا، بعد أن أصبحت تحت سيطرته تماما. كما لم يتحدّث التقرير عن الحصار العسكري الخانق من النظام، خصوصا لمخيمي اليرموك وخان الشيح، ولا ما تعرّضت له هذه المخيمات من قصف عنيف وتجويع سنوات. وإذا تمت إضافة هذه الظروف إلى ما جاء به نداء "أونروا" العاجل، فلنا أن نعرف أي جحيمٍ مروّع يعيشه الفلسطينيون السوريون في ظل المحرقة السورية المستعرة منذ ست سنوات.
يُضاف إلى ذلك أن الفلسطيني السوري ممنوع من دخول كل دول الطوق السوري. وبذلك، لم يعد أمامه من طريق للهروب من الجحيم السوري. إنه محاصر في حصاره، الكل ينكر عليه حق أن يكون لاجئا مرة أخرى من الموت، لا حق له في أن يُعامل حتى معاملة اللاجئ السوري المنكوب، فهو فائضٌ عن الحاجة، ولا يتساوى مع اللاجئ السوري حتى في البؤس والتشرّد مرة أخرى. كان لبنان البلد الأخير في طوق البلدان المحيطة بسوريا، بل وفي العالم، الذي يسمح للفلسطيني بالدخول إلى أراضيه من دون إجراءات معقدة، على الرغم من أنه لا يدخل لبنان لاجئا، إنما سائح، لكنه كان منفذا أو معبرا للهروب من الموت، يستطيع المحظوظون من الفلسطينيين اللجوء إليه، فالبؤساء من سكان المخيمات الفلسطينية في سورية لا يملكون ترف العيش حتى في مخيمات البؤس الفلسطيني في لبنان، لكن حتى هذا الطريق أغلق أمام الفلسطينيين منذ أكثر من عامين.
وجاء الجرح الأكبر للفلسطينيين السوريين من منظمة التحرير التي تُعتبر ممثلهم الشرعي. لا تريد السلطة في رام الله رؤية المأساة الفلسطينية في سوريا، لأنها لا تريد أن ترى المأساة السورية أصلا، فهي قرّرت الاصطفاف مع النظام، وتكرر خطابه، ما شكل طعنة للفلسطينيين السوريين من ممثلهم الشرعي الذي اعتبر وقوفه إلى جانب النظام يعفيه من الوقوف إلى جانب شعبه (هذا إذا كان يعتبرهم شعبه أصلا)، فالمساعدات التي قدّمتها منظمة التحرير للفلسطينيين السوريين مخزية، وقدمت في إطار إذلالي من شخصيات أقل ما يقال فيها إنها منحطة وعميلة للمخابرات السورية.
يبدو أن قدر الفلسطيني السوري كقدر السوري، أن يقتل ويذل ويهجر في صمت العالم فاقد الضمير، وفي عار سكوت منظمة التحرير ممثل الفلسطينيين. وفي ظل صمت الجميع، يتعفّن الفلسطينيون في الجحيم السوري كما أشقاؤهم السوريون.