في كل مناسبة لا يكن بوسع أبناء الأسيرة المقدسية فدوى حمادة الخمسة إلا المكْث في البيت لوجعهم وألمهم يفتقدون والدتهم التي غيبها الأسر منذ ستة أعوام، فتطوى تلك الأيام الطويلة من أعمارهم بعيدًا عن حضنها، غير أن الأمل لا يبرح صدورهم بتحررها.
ولدت الأسيرة حمادة (36 عامًا) في مخيم شعفاط شمال شرق مدينة القدس المحتلة، وترعرعت فيه وتلقت تعليمها في مدارس غوث وتشغيل اللاجئين "أونروا"، ثم انتقلت برفقة عائلتها إلى بلدة صور باهر عام 2000، وبعد نجاحها في الثانوية العامة، أكملت تعليمها وحصلت على شهادة إدارة فنادق، وأخرى في تخصص المحاسبة.
في عام 2009 ارتبطت بزوجها منذر حمادة، وقد عاشا حياة زوجية سعيدة تكللت بإنجاب خمسة أبناء، كرست فدوى حياتها من أجل تربيتهم ورعايتهم.
يقول منذر لصحيفة "فلسطين": "كنا نعيش حياة أسرية سعيدة، كرست فدوى حياتها في تربية أبنائنا الخمسة حتى اعتقلها جيش الاحتلال في 12 أغسطس 2017 في منطقة باب العمود، كان أكبر أبنائنا حمادة 6 سنوات وأصغرهم مريم خمسة أشهر".
يوم عصيب
يجهل منذر تفاصيل ذلك اليوم العصيب، لكن ما يذكره جيدًا أن الاحتلال استمر في احتجاز فدوى مدة عشرة أشهر في ظروف اعتقالية صعبة خضعت خلالها لتحقيق قاسٍ، إلى جانب الضغوط النفسية التي مورست عليها في الزنازين والعزل في سجن الرملة والدامون بتهمة محاولة تنفيذ عملية طعن، لتُحاكم بالسجن الفعلي مدة 10 سنوات، وغرامة مالية 30 ألف شيقل.
يضيف: "عرفت بخبر اعتقالها عبر مواقع الأخبار. صدمت، وكنت خائفًا من أن تكون مصابة، وأخذت نفسًا عميقًا بعدما شاهدت صورها بأنها لم تصب بأذى، وفكرت جيدًا، فأنا أعرف الإجراءات التي يقوم بها الاحتلال عقب الاعتقالات وادعاءاته الكاذبة، بالتأكيد سيتم اقتحام المنزل ومصادرة الأموال والذهب، واعتقالي، لذلك توجهت بسرعة إلى البيت واصطحبت أبنائي بهدوء إلى بيت أهلي".
وبالفعل اتصلت مخابرات الاحتلال بمنذر وطلبوا منه الحضور بسرعة، فاعتدوا عليه وأخبروه بأنه رهن الاعتقال.
يمضي إلى القول: "سمعت صوت فدوى وهي تصرخ وتبكي بأنها لم تفعل شيئًا، وكانوا يحاولون الضغط عليها، وعانت ظروفًا صحية من آثار التحقيق".
لم تراعِ المحكمة ظروف فدوى الصحية، وأقرت حكمًا تعسفيًا بحقها، وفي سنوات اعتقالها أهملت طبيًّا فعانت أمراض الكولسترول وضغط الدم وتورمًا في قدميها، ولم يقدم لها العلاجات اللازمة، "فهو احتلال يمعن في التعذيب والانتقام ويتفنن في ذلك"، يتابع منذر.
وعن ظروف الحياة في إثر محاكمة فدوى، يقول: "بدأت أعيش معاناة جديدة مع أبنائي الذين يفتقدون والدتهم في كل أمور حياتهم، خاصة مريم لكونها رضيعًا في ذلك الوقت. حاولت أن أكون الأم والأب إلا أن حياتهم، ولا أخفي ذلك، كانت صعبة يشعرون بنقص كبير، تعذبت معهم".
مرت الأيام وكبر الأبناء وهم يفتقدون حنان والدتهم وغيابها عن البيت، لافتًا إلى أن ذلك أثر بصورة كبيرة في نفسيتهم رغم محاولاته التخفيف عنهم بأي شكل أو وسيلة.
ويردف: "لا يملون من السؤال عنها والأحاديث التي تشملها. كانوا يبكون يوميًا يريدونها بجانبهم، كنت لا أعرف ماذا أفعل لهم، أضع لهم برامج كثيرة وتساعدني أمي ووالدة فدوى في رعايتهم".
أدوار مختلطة
وبعد مضي ست سنوات على اعتقال فدوى، يصف منذر التعامل مع أبنائه اليوم بأنه أصعب من البدايات، "في أول اعتقالها كان الأمر أهون من اليوم، كانوا صغارًا لا يدرك معظمهم ما يجري، أما اليوم فيصعب التعامل معهم".
ويستدرك: "مع غيابها طيلة تلك السنوات عنهم إلا أنهم متعلقون بها، ينتظرون اليوم الذي يأكلون فيه طعامًا من صنع يديها، يجتهدون ليقدموا لها الهدايا في يوم الأم كل عام".
يصمت برهة ثم يكمل: "ففي أي قانون يحرم الأطفال من والدتهم وهم بأمس الحاجة لها؟".
ويذكر أن ابنته مريم التي حرمت منها، وعند اعتقالها لم تكن حينها تحفظ ملامحها إلا أنها متعلقة بها كثيرًا، ترافقه كل أسبوعين في زيارته لها، وقبل دخولها للزيارة تقطف مريم وردًا لتهديه لأمها، لتصطدم بمنع السجانة التي تقف على باب قاعة الزيارة من إدخال الزهرة، وفي إحدى الزيارات استطاعت أن تهدي أمها بضع زهرات أخفتها تحت ملابسها.
وفي مكالمات الهاتف التي يسمح لفدوى بإجرائها من داخل السجن، تجلس مريم وأشقاؤها ينتظرون رنين الهاتف في موعده المحدد، يتسابقون ليحظى أحدهم بالحديث معها أولًا، في حين يعلو صوت مريم طيلة المكالمة "ماما اشتقنالك، بنحبك كتير".
أما عن المناسبات السعيدة التي تمر بالأسرة، فتكون الدموع السبيل الوحيد للتعبير عن مشاعر الاشتياق والفقدان في أدق تفاصيلهم الحياتية، يحدوهم الأمل بأن تجمع شتاتهم صفقة جديدة لتبادل الأسرى.