فجر الخامس عشر من آب/ أغسطس الجاري أعدم جنود الاحتلال شابّاً في بيته في قرية كفر عقب شماليّ القدس المحتلة، حينما اتجه لفتح الباب. سوف تكون الرواية المبتذلة للاحتلال أن الشاب قدم إلى الباب وهو يحمل سكيناً، وهي رواية عديمة القيمة، بالنظر أولاً إلى أنّ جنود الاحتلال أخطؤوا المنزل المستهدف، فلم يكن محمد الشحام هو المستهدف بالاعتقال أو الاغتيال، وهو ما يعني، لو كان يحمل سكيناً، أنه احتاط من لصوص أو مجرمين، بيد أنّ الجنود بعد أن أطلقوا النار عليه تركوه ساعات ينزف، واعتدوا بالضرب على أهله.
الجنود المدججون بالعدد الكبير والعتاد والزي اللذين يحيّدان أيّ سكين، حتى حين الخطأ يفصحون عن هذا القدر من العنف تجاه الفلسطيني، ما يجعل الفلسطيني بين العنف الصارخ وبين العنف الملجوم. فالفلسطيني يعيش العنف الإسرائيلي على مدار الوقت، فحيثما التفّ بوجهه، أو قرّر السير بجسده، سوف يواجهه عنف يتكلم بالهندسة الجغرافية، بالجدار والحاجز والسلك والبوابة والبرج والمكعب الإسمنتي، وعنف غامض، يحسّه الفلسطيني توجّساً في داخله. فالرصاصة قد تخرج من الجنديّ في أيّ لحظة، واحتجاز الوقت على الحاجز محتمل في كل وقت.
قدر الفلسطيني وهو متجه من رام الله إلى بعض بلدات شرقي القدس الواقعة في الضفة الغربية، أن ينظر بحسرة إلى يمينه على حاجز "قلنديا" أو حاجز "الزعيِّم"، وهو يشتهي أن يدخل القدس وقد باتت قدرته على ذلك مستحيلة. قد يكون هذا الضَرْبُ من العنف، النوع الشامل الذي يلفّ الفلسطينيين في الضفة الغربيّة كلهم.
ليست القضية تمييزاً عنصريّاً يهندس المكان لراحة أصحاب لون أو طبقة اجتماعية على حساب غيرهم من أبناء المكان. من حيث الأصل لا شَرِكة في المكان، فالقضية بين مستعمرين مستوطنين وبين أصحاب المكان الأصليين، ثمّ تالياً يأتي التمييز، الذي يصدر في الجوهر تعبيراً عن رواية مأزومة ودعاية تواجه أكاذيبها كلّ لحظة بمعاينة أصحاب المكان الأصليين، لتكون الهندسة التمييزية وما يتصل بها من عنف صارخ، رغبة دائمة في الإزاحة والنفي والطمس لصاحب المكان الأصلي، والخلاص الذاتي من قلق الأكذوبة وإزمان الفَرَق الأمني.
لا استقرار والحالة هذه بالنسبة للإسرائيلي، إلا بنفي الفلسطيني. والنفي يأخذ أشكاله، من القتل في أعلاه، إلى التشريد في أوسطه، إلى محاولات الهندسة اليومية بحشر الفلسطيني في مسارات تحول دون اتصاله بكامل أرضه. مشكلة كثير من العرب، بل وبعض الفلسطينيين، أنهم لا يفهمون الإسرائيلي، لا يدركون وعيه المأزوم، ولا قلقه الأمني المزمن، وعلى نحو لا حلّ له!
ليست هذه المرّة الأولى التي يقتل فيها جنود الاحتلال فلسطينيين في بيوتهم من المسافة صفر. ليس الحديث الآن عن القتل الصاروخي والمدفعي الذي أخرج عشرات العائلات من الحياة في قطاع غزّة، فتلك قصّة أخرى، يتستّر فيها العدوّ بطبيعة المقاومة في القطاع، وجهدها الصاروخي في الردّ عليه. مثلاً نشرت صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية أخيراً أنّ خمسة أطفال فلسطينيين في جباليا قتلهم طيران الاحتلال في العدوان الأخير على غزّة، بالرغم من أنّ قوات الاحتلال لم ترصد إطلاق صواريخ من ذلك المكان.
في الأحوال كلّها، لا وزن لهذا "الخطأ الجانبي" عند الاحتلال، لأنه لا وزن للفلسطيني أصلاً، فكيف والعدوّ مدجج بهذه القدرات الاستخباراتية والتكنولوجية والتسليحية؟ بعض العرب اليوم، يكشفون عن استلاب عميق تجاه العدوّ، يخفي احتقاراً للذات. تجدهم يمجّدون (تل أبيب) ويحتقرون غزّة، وهكذا باتت دعاية بعض العرب تحيط العدوّ بهالة ألوهية. (إسرائيل) لا تخطئ، سلاحها دقيق، وهي رحيمة، والفلسطينيون ضيّعوا فرص السلام، والأطفال ضحايا حماس والجهاد الإسلامي. لكن الواقع الإسرائيلي، يكشف عن (إسرائيل) الخطّاءة، في كل ما توهّمه ذلك البعض العربي من كمالات!
مساء الخامس عشر من آب/ أغسطس أيضاً، انتشرت أخبار بوقوع عملية فلسطينية عند حاجز "الشويكة" في طولكرم. تبين فيما بعد أن الجنود الإسرائيليين، القلقين، مستسهلي الضغط على الزناد، أطلقوا النار على بعضهم. توهّموا أن فلسطينيّاً أطلق النار عليهم، فأطلقوا النار بلا وعي في اتجاهات عشوائيّة فأصابوا بعضهم، وقُتِل جنديّ بنيران أصدقائه.
"النيران الصديقة" تعبير عسكري معروف، في مقابل النيران المعادية، لكن النيران الصديقة الإسرائيلية عادة تنجم عن توهّم وجود نيران معادية، وعن عداء جمعيّ عميق يستسهل إزاحة الفلسطيني من الحياة، وعن قلق وخوف مستحكمين، عن ارتعاش تعجز القوّة الغاشمة عن تزيينه. حركة كلب مذعور بجانب جنديّ إسرائيلي في مهمة ليلية من شأنها أن تودي بحياة صديقه الذي يزامله في المهمّة. هذا في الضفّة الغربية التي يطبق عليها العدوّ أمنيّاً، فكيف في غزّة؟ هذه الحقيقة عن الجندي الخطّاء المرتعش لا يحبّ أن يصدّقها كارهو أنفسهم من بعض العرب!
ليس على سبيل الإحصاء، ولكن على سبيل المثل الحاضر في الذاكرة الآن.. قبل عام من الآن، قتل جنود الاحتلال الفتى عماد حشاش وهو على سطح بيته في مخيم بلاطة، عماد الذي لا يزيد عمره على 15 عاماً لم يكن يحمل سلاحاً ولم يكن مطلوباً في مهمة جنود الاحتلال المقتحمين للمخيم. وفي العام 2015 قتل جنود الاحتلال فلاح حمدي أبو ماريا داخل بيته في بلدة بيت أمر شماليّ الخليل، كانت المداهمة لأجل اعتقال الابن، ولكنهم قتلوا الأب عند أول ارتعاشة في نفس الجندي الضاغط على الزناد. وفي العام 2013 قتلوا إسلام الطوباسي من مخيم جنين بعد اقتحام بيته، تعرّفوا إلى هويته وأعدموه ميدانيّاً. وفي العام 2011 قتلوا عمر سليم القواسمي وهو نائم في فراشه في حي الشيخ وسط مدينة الخليل، قالوا حينها إن خطأ وقع في تحديد الهوية! حتى عندما يخطئون يعتدون على أهل البيت، ويحتجزون الجثمان، ويتركونه ينزف حتى الموت!
إنّها الدولة الخطاءة في أحوالها كلّها، وإنه الفلسطيني الذي إن لم يُقتل في المواجهة، فسوف يُقتل في فراشه!