ثمانيةُ أطباء ورؤساء أقسام كل يؤدي وظيفته في إسعاف مصابٍ وصلهم بحالة خطرة، استدعت حالته تدخل كل التخصصات، الجميع كان يسابق الزمن يحاولون وقف النزيف، قبل استشهاده، يتعلقون ببصيص أملٍ خافت لم ينقطع وظلوا يتشبثون به حتى اللحظة الأخيرة.
عشرين دقيقة مضت منذ وصول الحالة، طبيب الأنف والأذن والحنجرة يقوم بعمله، الجراحة العامة، أطباء الأوعية، جراحة الأعصاب، التخدير، أحدهم يضغط على بطنه، طبيب آخر يحاول وقف النزيف من رقبته، طبيب يمد له وحدات دم، الآخر يوقف النزيف الذي يخرج من الفم، آخر يضع محلولاً طبيا.
لكن ما شد الأنظار طبيب يقف في منتصف المشهد فوق سرير الجريح شارد الذهن ينظر في فضاء الغرفة أمامه، يمسك بين يديه محلولاً وعن يمينه وشماله يتوزع الأطباء الذين يدنون رؤوسهم عند جسد المريض، يقتربون من مواضع الإصابات ويتعاملون معها، بحذرٍ ودقة.
انتشرت الصورة بشكل واسع على مواقع التواصل الاجتماعي، واختيرت أيقونةً للعدوان، تسلط الضوء على جهود الأطباء في إسعاف المصابين، واختيرت عناوينَ لكاريكاتير نُشر في عدد من الصحف العربية والعالمية، التقت صحيفة "فلسطين" بالطبيب بكر أبو جراد صاحب الصورة وأزاحت الستار عن كواليس أخفتها الصورة، وتوقفنا عند محطات مختلفة في عمل الأطباء خلال العدوان.
بكر أبو جراد، طبيب عناية مركزية ويتخصص حاليًا في جراحة الأعصاب يعمل في مستشفى الشفاء منذ 2019، أدى واجبه المهني خلال التصعيدات العدوانية الإسرائيلية على غزة، وأهمها عدوان الاحتلال على غزة في مايو/ أيار 2021، وعدوان الأيام الثلاثة خلال أغسطس/ آب الجاري.
مشهد عفوي
لم يكن يعلم الطبيب أن صورته ستصبح أيقونة للعمل الطبي خلال العدوان، مشهد عفوي كان في خضم معركة حقيقية يحارب فيها الأطباء لإسعاف جريح، وهم يفعلون ذلك مع جرحى كثر، فجاءت الصورة لتخلد دورهم وتضحياتهم، وتظهر للعالم جانبًا آخر من المعركة، وهي إنقاذ حياة الإنسان.
ثالث أيام العدوان، كان الطبيب أبو جراد مناوبًا في قسم الطوارئ (الاستقبال)، والذي لم يتوقف خلاله استقبال الشهداء والإصابات، أصوات انفجارات تهز قطاع غزة سمعها الأطباء كانت علامة لهم بالاستعداد، اعتادوا خلال عملهم أنه بعد كل سقوط صاروخ هناك شهداء وإصابات.
"كنت في قسم الاستقبال، ووصلنا ثلاث حالات بينهم شهيد، وحالتان في حالة خطرة توزعتا على سريرين، وكنت ضمن فريق يسعف حالة وبجوارنا فريق يحاول إسعاف الحالة الثانية، وعملنا لعشرين دقيقة على إجراء إنعاش قلبي له، وكان العمل مرهقًا جدًا، وتكللت جهود الطاقم ورؤساء الأقسام بحصول رجوع لقلب المريض وإعادة النبض، وهذا أعطانا بصيص أمل، رغم أن علاماته الحيوية من قياس دم وتنفس سيئة لوجود نزيف داخلي وخارجي وكان بحاجة لتعويض سوائل" هكذا عاش بداية المشهد.
يعيد الطبيب تأمل الصورة المنتشرة مرة أخرى، معلقًا: "كان الجريح يعاني من توقف عضلة القلب، وجروح وإصابات بالرقبة والبطن، إضافة إلى الدماغ، وكنا نعمل على هذه الجوانب، وأحمل في يدي محلول الدم شارد الذهن، حالة المصاب كانت يائسة، شاب صغير في مقتبل العمر، يسير بالطريق وفجأة يقصف بصاروخ، خاصةً أن الفريق الطبي المجاور لنا أعلن استشهاد الحالة الثانية، وكنت خائفًا أن نعلن أيضًا عن استشهاده".
نجح الأطباء في السيطرة قليلا على الحالة، وجرى نقله لغرفة العمليات المكثفة بعد وقف النزيف في الرقبة والبطن، وحصلوا على استراحة محارب لم تدم طويلاً، فعاد النزيف مرة أخرى واستنفر الطاقم الطبي للتدخل جراحيًا، ولكنه "استشهد للأسف" ما زال الحزن في هذه الحياة يسيطر على ملامح وصوت الطبيب، يلتصق المشهد بذاكرته.
يرى الصورة كما لم يرها وهو بداخل إطارها على أرض الواقع ومن زاوية مختلفة عن الآخرين، يدقق في تفاصيلها: "أعتبرها -وإن كانت جسدت جانبًا نمارسه يوميًا في عملنا– ظالمة، لأن الجميع بدأ يسأل عن الشخص الواقف في الصورة وفي يده المحلول، ولم ينتبه أحد أن هناك أكثر من ست أطباء يجلسون عند رأس وقلب الجريح، منهم رؤساء أقسام".
يعترف: "كانوا يعملون خلف الستار، ويفوق دورهم ما أقوم بهم بمئات المرات، بعضهم لم يغادر المشفى منذ بداية العدوان، وكأن الصورة لم تعطِ أي شيء من الحقيقة، فمثلا على يميني كان رئيس قسم، وكذلك على يساري، لكنها أعطت بارقة أمل وسلطت الضوء على جهود الأطباء في إسعاف المصابين".
مشاهد كثيرة عالقة في ذاكرته، صور أشلاء الأطفال، لحظات وصول الإسعافات، اختزنت ذاكرته مشاهد كثيرة خلال العدوان، لكن الصورة المنتشرة هي التي تأثر بها، من بين المصابين والشهداء "عندما تدهورت حالته مرة أخرى وبدأنا محاولة إسعافه، وكان يوجد كل طواقم المستشفى من جميع التخصصات المطلوبة، لكنه استشهد، وتمنيت أن يعيش لأنني يمكن أن أسير إلى عملي وتنتهي حياتي بنفس الطريقة".
الساعة الرابعة عصر الجمعة (5 آب/ أغسطس) أعلنت وزارة الصحة حالة الطوارئ، وكانت المنظومة الصحية مثقلة بأوجاع كثيرة تئن كحال مرضاها وهموم أهالي القطاع، تعاني نقصا حادًا في الأدوية، ودقت ناقوس الخطر في ظل نقص الوقود، مما هدد بتوقفها عن العمل، لكن الطبيب أبو جراد وغيره من الأطباء نذروا أنفسهم وأوقاتهم لخدمة المصابين.