فلسطين أون لاين

والدة الشهيد إبراهيم النابلسي.. كبرياء وشموخ لا ينكسران

بعد أقل من يومين من إنهاء (إسرائيل) العدوان الذي شنته على القطاع واستمر ثلاثة أيام، وأسفر عن استشهاد 49 فلسطينيا، بينهم 15 طفلا، وجرح 360 اندلعت مباشرة اشتباكات دامية بين قوات الاحتلال ورجال المقاومة الفلسطينية الذين نهضوا مجددا وسددوا ضرباتهم الموجعة لقوات الاحتلال ردا على عدوانه وجرائمه التي لا تتوقف في عدد من مدن الضفة الغربية تركزت في نابلس والخليل ورام الله.

يوم الثلاثاء الماضي 9/ 8/2022 وعلى مدار قرابة ثلاث ساعات، شهدت مدينة نابلس وتحديدًا أطراف البلدة القديمة بحارة الشيخ مسلم حصارا لأحد المباني القديمة التي تحصن بداخلها المطاردان إبراهيم النابلسي أحد قادة كتائب الأقصى البارزين البالغ من العمر (26 عامًا)، وإسلام صبوح (25 عامًا)، بعد مواجهات عنيفة دارت مع قوات الاحتلال لم تشهد المدينة مثلها منذ سنوات، فجَّر الجنود الصهاينة المبنى بصواريخ ماتادور المحمولة على الكتف، ما أدى إلى استشهادهما، والطفل حسين طه (16 عامًا) وإلحاق دمار كبير بالمنازل والممتلكات المجاورة.

على الرغم من رهبة الموت ولوعة الفراق وألم الفقد فإن ما شاهدناه من والدة النابلسي شكَّل أسطورة حية لجبروت التماسك والثبات بالزغاريد والابتسامة في حضرة الشهيد في مشهد عظيم ومؤثر وموقف جلل يقطع نياط القلوب وترتعد له الفرائص، أساسه الإيمان والصبر وقوة الإرادة ومضاء العزيمة والشكيمة وحب الوطن حين وقفت (هدى النابلسي) أم الشهيد البطل إبراهيم النابلسي المؤمنة الصابرة فوق جثمانه الطاهر وهو مسجى في مستشفى رفيديا الحكومي في نابلس.

تخاطب بصوتٍ عالٍ وقلب وثاب الحاضرين وهي توجه رسالتها لقادة الاحتلال المجرمين (إذا كان إبراهيم قد استشهد فهناك آلاف من أبناء الشعب الفلسطيني على استعداد للتضحية والشهادة دفاعا عن الأقصى والقدس وستبقى فلسطين ولادة تلد الأحرار ولن تتعب أبدا من كثرة تقديمها للشهداء الأبطال الذين تربوا على الشجاعة والإقدام في ميادين النزال حيث تبرز قيمة ومكانة الرجال.

في الواقع كم كان لافتا بل مبهرا موقف هذه المرأة الودودة الحرة وهي تنعى فلذة كبدها مطالبة النساء بعدم البكاء وإظهار الفرح وتقديم التهاني بنجاح ولدها وبامتياز في نيل شرف الشهادة التي كان يتمناها في كل يوم في الوقت ذاته الذي غلبت فيه الدموع كثيرا من رفاقه الرجال وهم يشربون حسرة فراقه ويودعونه للمرة الأخيرة. حقًّا لقد أثبتت الأم الفلسطينية أنها منارة الصمود والكبرياء وأنها أقوى من قوانين الطبيعة وهي تزف ابنها للشهادة ولا تبكيه وتنظر بعينيها نحو السماء، وكأنها تراقب روحه الصاعدة إلى العلياء وفي صدرها بركان غضب مكتوم يتفجر.

في أثناء تشييع جنازة إبراهيم ورفيقيه وسط حالة من الغضب والحزن الشديدين وفي تحدٍّ صارخ لعصابات اللصوص وسارقي الأوطان ظهرت والدته برباطة جأش ليس له مثيل وهي ترافقه إلى قبره وتحمل نعشه وتصدح بالتكبير والتهليل وتطلق الزغاريد وتسير في مقدمة المشيعين وبيدها (بندقية الثائر الهمام) تلوح بها عاليا بشموخ وعنفوان وكأنها تزفه إلى عروسته.

أي امرأة هذه؟ ومن أي مادة خلقت؟ وفي أي مدرسة تربت؟ إنها (فلسطين) صانعة الثوار وقاهرة المعتدين، لله درك، أي صبر أعظم من صبرك وأي ثبات أعظم من ثباتك من هنا ليعلم جميع أهل الأرض أن الأم الفلسطينية وحدها (تشكل أمة) وهي تستقبل شهيدًا وتودع آخر رغم أن الابن غالٍ ويعادل الروح، لكن الوطن أغلى من الروح، فمن ليس لديه وطن ليس لديه كرامة ولا شرف ولا بيت.

والدة الشهيد تلك المرأة الفلسطينية الصلبة والمؤمنة والصابرة التي حملته في أحشائها جنينا وعلى صدرها رضيعا وعلى كتفيها شهيدا بعدما نذرته لله ورسوله والأقصى وفلسطين لم يكسرها موته وبقيت شامخة كالجبل وراسخة كالوطن وهي تتذكر ما قاله لها في اتصاله بها وهو تحت وابل النيران الإسرائيلية قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة (لا تزعلي علي، بحبك يا أمي، حافظوا على الوطن من بعدي، بوصيكم يا شباب ما حدا يترك البارودة، أنا محاصر وراح أستشهد، ادعوا لي).

إنفاذا لوصية الشهيد القيمة ووفاء للعهد والأمانة ابتهلت والدته ورفعت أكف الضراعة إلى الله تدعو له (اللهم استودعتك فلذة كبدي، استودعتك من كان عندي وأصبح عندك يا الله اجعل الجنة مدخله وأكرمه وارضَ عنه وأرضِهِ) في حين كانت تتحدث مبتسمة إلى مئات المسلحين الملثمين وغير الملثمين من رفاقه تشحذ هممهم وتشد عزائمهم وتقوي معنوياتهم وتحثهم على مواصلة دربه والمحافظة على البندقية والالتفاف حول المقاومة والانتقام لاغتياله ورفيقيه، ولم تنسَ مع جراحها وألمها توجيه التحية للأمين العام لحزب الله سماحة السيد حسن نصر الله.

المرأة الفلسطينية ضربت وما زالت تضرب أروع صور التضحيات والفداء، وهي تقدم أغلى ما تملك وتتقدم مواقع البذل والعطاء صامدة وصابرة ومكافحة، كيف لا وهي أم الشهيد وبنت الشهيد وزوجة الشهيد وأخت الشهيد، وقبل كل ذلك المدرسة الوطنية الأولى التي يعود لها الفضل في تخريج المجاهدين الشرفاء الذين يسطرون في كل يوم أصلب ملاحم الصمود والتضحية ويقدمون في كل ميادين الشرف والعزة دروسا عظيمة في إرادة التحدي والمقاومة فمن (أين أنتن يا نساء فلسطين الخنساوات؟) بنات وأخوات الرجال الأبطال ومدارس العزة والكرامة وحاضنات الصبر والاحتمال ومرضعات حليب العنفوان والشهامة لجيل النصر والتحرير بإذن الله.

لا يفوتنا في هذا المقام أن نذكر بالشهيدات والاستشهاديات الباسلات اللواتي سطرن بالرصاص والدم أكمل البطولات حين امتشقن السلاح لمجابهة العدو دون خوف أو وجل، إنهن نجمات فلسطين وأقمارها هنادي جرادات وهبة دراغمة وميساء أبو فنونة وميرفت مسعود وآيات الأخرس وريم الرياشي وسناء قديح وفاطمة النجار وغيرهن ممن لا يتسع المقال لذكرهن.

لقد خاب ظن قادة كيان الاحتلال الذين راهنوا منذ عام 1948 على كسر إرادة الأجيال  الفلسطينية الجديدة، وعلى أن عامل الزمن سينسيها وطنها ليعودوا اليوم مرغمين أمام شراسة المواجهات والتحديات، ليعترفوا أن هذا الجيل من الشباب والشابات الفلسطينيين (الجيل الرابع) الذين يقومون بمعظم العمليات الفدائية يتمتعون بإرادة لا تلين، وأنهم تعلموا الكثير من الأخطاء التي ارتكبتها قياداتهم السابقة والحالية بعدما فقدوا الأمل في أوسلو وأوهام السلام، وأثبتوا أنهم جيل لا ينهزم ويزداد تمسكا بأرضه وإيمانا بأن المقاومة المسلحة هي اللغة الوحيدة التي يفهمها العدو الصهيوني وهي الطريق الوحيد لتحرير فلسطين من البحر إلى النهر.

شباب فلسطين يأبون إلا أن يكونوا حصنا منيعا لوطنهم وأهلهم في مواجهة غطرسة الاحتلال الغاشم وهم يقدمون أنفسهم قرابين شهادة على مذبح المقاومة، لتتحول تضحياتهم نارا على الأعداء تطالهم أينما وجدوا ولتزهر دماؤهم الزكية عزة وشموخا وبطولة في كل ربوع الوطن شهداء أبرارا صناع مجد ونصر ومن خلفهم أمهات تعجز الحروف عن وصف صبرهن وتضحياتهن ويجف مداد الفكر خشوعاً أمام عطائهن وأرواحهن النضالية العالية.

المقاومة الفلسطينية في موجتها الجديدة أكدت بوضوح ومصداقية أن قضية القدس والمسجد الأقصى وحق العودة وفك الحصار عن غزة وتحرير الأسرى لا يمكن أن تحسم على طاولة المفاوضات السياسية العبثية التي أرهقت اللاهثين خلفها، وأضاعت البوصلة أمام الكثير من نخب الأمة، وأن هذا الاحتلال بكامله لن ينتهي إلا عبر البندقية والرصاص والمواجهات العسكرية الشاملة مع العدو الصهيوني الغاصب في كل الساحات.

على أمريكا وأوروبا والمجتمع الدولي والضمير العالمي أن يعوا أنه لن يكون أمن ولا استقرار في المنطقة ما لم ينعم الشعب الفلسطيني بحقه الكامل في المسجد الأقصى والقدس وكنيسة القيامة، وبكل شبر من أرض وطنه ما دام هنالك شباب يسارعون إلى الشهادة كأنهم يتقدمون إلى مهرجان عرس، وأمهات يشاركن في زفاف أبنائهن حتى مثواهم الأخير، وهن يزغردن فرحاً بأعظم هدية فازوا بها، فإن هذا الشعب العظيم لن ينهزم، وسوف ينتصر ويدحر الاحتلال ويسترجع كل حقوقه التي لن تضيع بالتقادم ولا بمؤامرات التطبيع مهما طال الزمن.

أخيرا نقول: ويل لبني صهيون شذاذ الآفاق من أم أرضعت أشبالها الوطنية وأنبتتهم أشاوس حتى غـدوا فدائيين يقدمون ملاحم البطولية صمودا وبسالة وتضحيات متوارثة من عزم الأجداد والآباء إلى عزيمة الشباب وصحوة الأطفال الذين تربوا في حضن أمهات يتحدين الموت الزؤام بزغاريد الفرح وبسمات السرور. هذه هي قصة (هدى المصري أم إبراهيم) وهذه هي كل القضية، وحتى أكون منصفًا فالمرأة الفلسطينية عموماً قدمت الشهداء فداء للوطن، وأم ابراهيم التي كتبنا عنها وأصرت على حمل نعش ابنها الشهيد وسلاحه ليست الأولى، ولا هي الوحيدة، فهنالك الآلاف من ماجدات فلسطين العظيمات سرن على نفس طريق الفقد والألم والثبات والصبر بكل شموخ وإباء.

كل التقدير والتحية لأم الشهيد وأم الأسير وأم الجريح وأم المقاوم وصادق الفخر والاعتزاز بك أيتها الأم الفلسطينية.

المصدر / رأي اليوم